الميزان في تفسير القرآن

سورة طه

9 - 48

تابع
وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى (9) إِذْ رَأَى نَارًا فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَّعَلِّي آتِيكُم مِّنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى (10) فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِي يَا مُوسَى (11) إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى (12) وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى (13) إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي (14) إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى (15) فَلاَ يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لاَ يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى (16) وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى (17) قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى (18) قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَى (19) فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى (20) قَالَ خُذْهَا وَلا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الأُولَى (21) وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاء مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرَى (22) لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الْكُبْرَى (23) اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (24) قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (25) وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي (26) وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي (27) يَفْقَهُوا قَوْلِي (28) وَاجْعَل لِّي وَزِيرًا مِّنْ أَهْلِي (29) هَارُونَ أَخِي (30) اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (31) وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي (32) كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا (33) وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا (34) إِنَّكَ كُنتَ بِنَا بَصِيرًا (35) قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى (36) وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى (37) إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى (38) أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِّي وَعَدُوٌّ لَّهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي (39) إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَن يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْسًا فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى (40) وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي (41) اذْهَبْ أَنتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلا تَنِيَا فِي ذِكْرِي (42) اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (43) فَقُولا لَهُ قَوْلا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى (44) قَالا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَن يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَن يَطْغَى (45) قَالَ لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى (46) فَأْتِيَاهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكَ وَالسَّلامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى (47) إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَن كَذَّبَ وَتَوَلَّى (48)

أمر سبحانه موسى أن يلقي عصاه عن يمينه و هو قوله: «قال ألقها يا موسى» فلما ألقى العصا صارت حية تتحرك بجد و جلادة و ذلك أمر غير مترقب من جماد لا حياة له و هو قوله: «فألقاها فإذا هي حية تسعى» و قد عبر تعالى عن سعيها في موضع آخر من كلامه بقوله: «رآها تهتز كأنها جان»: القصص: 31، و عبر عن الحية أيضا في موضع آخر بقوله: «فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين»: الأعراف: 107، الشعراء: 32 و الثعبان: الحية العظيمة.

و قوله: «قال خذها و لا تخف سنعيدها سيرتها» أي حالتها «الأولى» و هي أنها عصا فيه دلالة على خوفه (عليه السلام) مما شاهده من حية ساعية و قد قصه تعالى في موضع آخر إذ قال: «فلما رآها تهتز كأنها جان ولى مدبرا و لم يعقب يا موسى أقبل و لا تخف»: القصص: 31، و الخوف و هو الأخذ بمقدمات التحرز عن الشر غير الخشية التي هي تأثر القلب و اضطرابه فإن الخشية رذيلة تنافي فضيلة الشجاعة بخلاف الخوف و الأنبياء (عليهم السلام) يجوز عليهم الخوف دون الخشية كما قال الله تعالى: «الذين يبلغون رسالات الله و يخشونه و لا يخشون أحدا إلا الله»: الأحزاب: 39.

قوله تعالى: «و اضمم يدك إلى جناحك تخرج بيضاء من غير سوء آية أخرى» الضم الجمع، و الجناح جناح الطائر و اليد و العضد و الإبط و لعل المراد به المعنى الأخير ليئول إلى قوله في موضع آخر: «أدخل يدك في جيبك» و السوء كل رداءة و قبح قيل: كني به في الآية عن البرص و المعنى أجمع يدك تحت إبطك أي أدخلها في جيبك تخرج بيضاء من غير برص أو حالة سيئة أخرى.

و قوله: «آية أخرى» حال من ضمير تخرج و فيه إشارة إلى أن صيرورة العصا حية آية أولى و اليد البيضاء آية أخرى و قال تعالى في ذلك: «فذانك برهانان من ربك إلى فرعون و ملإيه»: القصص: 32.

قوله تعالى: «لنريك من آياتنا الكبرى» اللام للتعليل و الجملة متعلقة بمقدر كأنه قيل: أجرينا ما أجرينا على يدك لنريك بعض آياتنا الكبرى.

قوله تعالى: «اذهب إلى فرعون إنه طغى» هذا هو أمر الرسالة و كانت الآيات السابقة: «و ما تلك بيمينك» إلخ مقدمة له.

قوله تعالى: «قال رب اشرح لي صدري - إلى قوله - إنك كنت بنا بصيرا» الآيات - و هي إحدى عشرة آية - متن ما سأله موسى (عليه السلام) ربه حين سجل عليه حكم الرسالة و هي بظاهرها مربوطة بأمر رسالته لأنه أحوج ما يكون إليها في تبليغ الرسالة إلى فرعون و ملئه و إنجاء بني إسرائيل و إدارة أمورهم لا في أمر النبوة.

و يؤيد ذلك أنه لم يسأل بعد إتمام أمر النبوة في الآيات الثلاث السابقة بل إنما بادر إلى ذلك بعد ما ألقي إليه قوله: «اذهب إلى فرعون إنه طغى» و هو أمر الرسالة.

نعم الآيات الأربع الأول: «رب اشرح لي صدري» إلخ، لا يخلو من ارتباط في الجملة بأمر النبوة و هي تلقي عقائد الدين و أحكامه العملية عن ساحة الربوبية.

فقوله: «رب اشرح لي صدري» و الشرح البسط و الجملة من الاستعارة التخييلية و الاستعارة بالكناية كأن صدر الإنسان و قد استكن فيه القلب وعاء يعي ما يرد عليه من طريق المشاهدة و الإدراك ثم يختزن فيه السر و إذا كان أمرا عظيما يشق على الإنسان أو هو فوق طاقته ضاق عنه الصدر فلم يسعه و احتاج إلى انشراح حتى يسعه.

و قد استعظم موسى ما سجل عليه ربه من أمر الرسالة و قد كان على علم بما عليه أمة القبط من الشوكة و القوة و على رأس هذه الأمة المتجبرة فرعون الطاغي الذي كان ينازع الله في ربوبيته و ينادي أنا ربكم الأعلى، و كان يذكر ما عليه بنو إسرائيل من الضعف و الإسارة بين آل فرعون ثم الجهل و انحطاط الفكر، و كان كأنه يرى ما ستجره إليه هذه الدعوة من الشدائد و المصائب و يشاهد ما سيعقبه تبليغ هذه الرسالة من الفظائع و الفجائع و هو رجل قليل التحمل سريع الانقلاب في ذات الله ينكر الظلم و يأبى الضيم كما يشهد به قصة قتله القبطي و استقائه في ماء مدين و في لسانه - و هو السلاح الوحيد لمن أراد الدعوة و التبليغ - عقدة ربما منعته بيان ما يريد بيانه.

فلذلك سأل ربه حل هذه المشكلات فسأل أولا أن يوسع صدره لما يحمله ربه من أعباء الرسالة و لما ستستقبله من العظائم و الشدائد في مسيره في الدعوة فقال: «رب اشرح لي صدري.

ثم قال: «و يسر لي أمري» و هو الأمر الذي قلده من الرسالة و لم يسأله تعالى أن يخفف في رسالته و يتنزل بعض التنزل عما أمره به أولا فيقنع بما هو دونه فتصير رسالة يسيرة في نفسها بعد ما كانت خطيرة و إنما سأل أن يجعلها على ما بها من العسر و الخطر يسيرة بالنسبة إليه هينة عنده و الدليل على ذلك قوله: «و يسر لي».

و وجه الدلالة أن قوله: «لي» و المقام هذا المقام يفيد الاختصاص فيؤدي ما هو معنى قولنا: و يسر لي، و أنا الذي أوقفتني هذا الموقف و قلدتني ما قلدتني أمري الذي قلدتنيه و من المعلوم أن مقتضى هذا السؤال تيسير الأمر بالنسبة إليه لا تيسيره في نفسه، و نظير الكلام يجري في قوله: «اشرح لي» فمعناه اشرح لي و أنا الذي أمرتني بالرسالة و قبالها شدائد و مكاره «صدري» حتى لا يضيق إذا ازدحمت علي و دهمتني، و لو قيل: رب اشرح صدري و يسر أمري فاتت هذه النكتة.

و قوله: «و احلل عقدة من لساني يفقهوا قولي» سؤال له آخر يرجع إلى عقدة من لسانه و التنكير في «عقدة» للدلالة على النوعية فله وصف مقدر و هو الذي يلوح من قوله: «يفقهوا قولي» أي عقدة تمنع من فقه قولي.

و قوله: «و اجعل لي وزيرا من أهلي هارون أخي» سؤال له آخر و هو رابع الأسئلة و آخرها، و الوزير فعيل من الوزر بالكسر فالسكون بمعنى الحمل الثقيل سمي الوزير وزيرا لأنه يحمل ثقل حمل الملك، و قيل: من الوزر بفتحتين بمعنى الجبل الذي يلتجأ إليه سمي به لأن الملك يلتجىء إليه في آرائه و أحكامه.

و بالجملة هو يسأل ربه أن يجعل له وزيرا من أهله و يبينه أنه هارون أخي و إنما يسأل ذلك لأن الأمر كثير الجوانب متباعد الأطراف لا يسع موسى أن يقوم به وحده بل يحتاج إلى وزير يشاركه في ذلك فيقوم ببعض الأمر فيخفف عنه فيما يقوم به هذا الوزير و يكون مؤيدا لموسى فيما يقوم به موسى و هذا معنى قوله - و هو بمنزلة التفسير لجعله وزيرا - «اشدد به أزرى و أشركه في أمري».

فمعنى قوله: «و أشركه في أمري» سؤال إشراك في أمر كان يخصه و هو تبليغ ما بلغه من ربه بادي مرة فهو الذي يخصه و لا يشاركه فيه أحد سواه و لا له أن يستنيب فيه غيره و أما تبليغ الدين أو شيء من أجزائه بعد بلوغه بتوسط النبي فليس مما يختص بالنبي بل هو وظيفة كل من آمن به ممن يعلم شيئا من الدين و على العالم أن يبلغ الجاهل و على الشاهد أن يبلغ الغائب و لا معنى لسؤال إشراك أخيه معه في أمر لا يخصه بل يعمه و أخاه و كل من آمن به من الإرشاد و التعليم و البيان و التبليغ فتبين أن معنى إشراكه في أمره أن يقوم بتبليغ بعض ما يوحى إليه من ربه عنه و سائر ما يختص به من عند الله كافتراض الطاعة و حجية الكلمة.

و أما الإشراك في النبوة خاصة بمعنى تلقي الوحي من الله سبحانه فلم يكن موسى يخاف على نفسه التفرد في ذلك حتى يسأل الشريك و إنما كان يخاف التفرد في التبليغ و إدارة الأمور في إنجاء بني إسرائيل و ما يلحق بذلك، و قد نقل ذلك عن موسى نفسه في قوله: «و أخي هارون هو أفصح مني لسانا فأرسله معي ردءا يصدقني»: القصص: 34.

على أنه صح من طرق الفريقين أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) دعا بهذا الدعاء بألفاظه في حق علي (عليه السلام) و لم يكن نبيا.

و قوله: «كي نسبحك كثيرا و نذكرك كثيرا» ظاهر السياق و قد ذكر في الغاية تسبيحهما معا و ذكرهما معا أن الجملة غاية لجعل هارون وزيرا له إذ لا تعلق لتسبيحهما معا و ذكرهما معا بمضامين الأدعية السابقة و هي شرح صدره و تيسير أمره و حل عقدة من لسانه و يترتب على ذلك أن المراد بالتسبيح و الذكر تنزيههما معا لله سبحانه و ذكرهما له بين الناس علنا لا في حال خلوتهما أو في قلبيهما سرا إذ لا تعلق لذلك أيضا بجعله وزيرا بل المراد أن يسبحاه و يذكراه معا بين الناس في مجامعهم و نواديهم و أي مجلس منهم حلا فيه و حضرا فتكثر الدعوة إلى الإيمان بالله و رفض الشركاء.

و بذلك يرجع ذيل السياق إلى صدره كأنه يقول: إن الأمر خطير و قد غر هذا الطاغية و ملأه و أمته عزهم و سلطانهم و نشب الشرك و الوثنية بأعراقه في قلوبهم و أنساهم ذكر الله من أصله و قد امتلأت أعين بني إسرائيل بما يشاهدونه من عزة فرعون و شوكة ملئه و اندهشت قلوبهم من سطوة آل فرعون و ارتاعت نفوسهم من سلطتهم فنسوا الله و لا يذكرون إلا الطاغية، فهذا الأمر أمر الرسالة و الدعوة في نجاحه و مضيه في حاجة شديدة إلى تنزيهك بنفي الشريك كثيرا و إلى ذكرك بالربوبية و الألوهية بينهم كثيرا ليتبصروا فيؤمنوا و هذا أمر لا أقوى عليه وحدي فاجعل هارون وزيرا لي و أيدني به و أشركه في أمري كي نسبحك كثيرا و نذكرك كثيرا لعل السعي ينجع و الدعوة تنفع.

و بهذا البيان يظهر وجه تعلق هذه الغاية أعني قوله: «كي نسبحك» إلخ، بما تقدمه.

و ثانيا: وجه ورود قوله: «كثيرا» مرتين و أنه ليس من التكرار في شيء إذ كل من التسبيح و الذكر يجب أن يكون في نفسه كثيرا، و لو قيل كي نسبحك و نذكرك كثيرا أفاد كثرتهما مجتمعين و هو غير مراد.

و ثالثا: وجه تقديم التسبيح على الذكر فإن المراد بالتسبيح تنزيهه تعالى عن الشريك بدفع ألوهية الآلهة من دون الله و إبطال ربوبيتها لتقع الدعوة إلى الإيمان بالله وحده، و هو المراد بالذكر، موقعها.

فالتسبيح من قبيل دفع المانع المتقدم على تأثير المقتضي، و قد ذكر لهذه الخصوصيات وجوه أخر مذكورة في المطولات لا جدوى فيها و لا في نقلها.

و قوله: «إنك كنت بنا بصيرا» هو بظاهره تعليل كالحجة على قوله: «كي نسبحك كثيرا» إلخ، أي أنك كنت بصيرا بي و بأخي منذ خلقتنا و عرفتنا نفسك و تعلم أنا لم نزل نعبدك بالتسبيح و الذكر ساعيين مجدين في ذلك فإن جعلته وزيرا لي و أيدتني به و أشركته في أمري تم أمر الدعوة و سبحناك كثيرا و ذكرناك كثيرا، و المراد بقوله «بنا» على هذا هو و أخوه.

و يمكن أن يكون المراد بالضمير في «بنا» أهله، و المعنى: أنك كنت بصيرا بنا أهل البيت أنا أهل تسبيح و ذكر فإن جعلت هارون أخي، و هو من أهلي، وزيرا لي سبحناك كثيرا و ذكرناك كثيرا، و هذا الوجه أحسن من سابقه لأنه يفي ببيان النكتة في ذكر الأهل في قوله السابق: «و اجعل لي وزيرا من أهلي هارون أخي» أيضا فافهم ذلك.

قوله تعالى: «قال قد أوتيت سؤلك يا موسى» إجابة لأدعيته جميعا و هو إنشاء نظير ما مر من قوله: «و أنا اخترتك فاستمع لما يوحى».

قوله تعالى: «و لقد مننا عليك مرة أخرى - إلى قوله - كي تقر عينها و لا تحزن» يذكره تعالى بمن آخر له عليه قبل أن يختاره للنبوة و الرسالة و يؤتي سؤله و هو منه عليه حينما تولد فقد كان بعض الكهنة أخبر فرعون أن سيولد في بني إسرائيل مولود يكون بيده زوال ملكه فأمر فرعون بقتل كل مولود يولد فيهم فكانوا يقتلون المواليد الذكور حتى إذا ولد موسى أوحى الله إلى أمه أن لا تخاف و ترضعه فإذا خافت عليه من عمال فرعون و جلاوزته تقذفه في تابوت فتقذفه في النيل فيلقيه اليم إلى الساحل حيال قصر فرعون فيأخذه فيتخذه ابنا له و كان لا عقب له و لا يقتله ثم إن الله سيرده إليها.

ففعلت كما أوحي إليها فلما جرى التابوت بجريان النيل أرسلت بنتا لها و هي أخت موسى أن تجس أخباره فكانت تطوف حول قصر فرعون حتى وجدت نفرا يطلبون بأمر فرعون مرضعا ترضع موسى فدلتهم أخت موسى على أمها فاسترضعوها له فأخذت ولدها و قرت به عينها و صدق الله وعده و قد عظم منه على موسى.

فقوله: «و لقد مننا عليك مرة أخرى» امتنان بما صنعه به أول عمره و قد تغير السياق من التكلم وحده إلى التكلم بالغير لأن المقام مقام إظهار العظمة و هو ينبىء عن ظهور قدرته التامة بتخييب سعي فرعون الطاغية و إبطال كيده لإخماد نور الله و رد مكره إليه و تربية عدوه في حجره، و أما موقف نداء موسى و تكليمه إذ قال: «يا موسى إني أنا ربك» إلخ فسياق التكلم وحده أنسب له.

و قوله: «إذ أوحينا إلى أمك ما يوحى» المراد به الإلهام و هو نوع من القذف في القلب في يقظة أو نوم، و الوحي في كلامه تعالى لا ينحصر في وحي النبوة كما قال تعالى: «و أوحى ربك إلى النحل»: النحل: 68، و أما وحي النبوة فالنساء لا يتنبأن و لا يوحى إليهن بذلك قال تعالى: «و ما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم من أهل القرى»: يوسف: 109 و قوله: «أن اقذفيه في التابوت» إلى آخر الآية هو مضمون ما أوحي إلى أم موسى و «أن» للتفسير، و قيل: مصدرية متعلق بأوحي و التقدير أوحي بأن اقذفيه، و قيل: مصدرية و الجملة بدل من: «ما يوحى».

و التابوت الصندوق و ما يشبهه و القذف الوضع و الإلقاء و كأن القذف الأول في الآية بالمعنى الأول و القذف الثاني بالمعنى الثاني و يمكن أن يكونا معا بالمعنى الثاني بعناية أن وضع الطفل في التابوت و إلقاءه في اليم إلقاء و طرح له من غير أن يعبأ بحاله، و اليم البحر: و قيل: البحر العذب، و الساحل شاطىء البحر و جانبه من البر، و الصنع و الصنيعة الإحسان.

و قوله: «فليلقه اليم» أمر عبر به إشارة إلى تحقق وقوعه و مفاده أنا أمرنا اليم بذلك أمرا تكوينيا فهو واقع حتما مقضيا، و كذا قوله: «يأخذه عدو لي» إلخ و هو جزاء مترتب على هذا الأمر.

و معنى الآيتين إذ أوحينا و ألهمنا أمك بما يوحى و يلهم و هو أن ضعيه - أو ألقيه - في التابوت و هو الصندوق فألقيه في اليم و البحر و هو النيل فمن المقضي من عندنا أن يلقيه البحر بالساحل و الشاطىء يأخذه عدو لي و عدو له و هو فرعون لأنه كان يعادي الله بدعوى الألوهية و يعادي موسى بقتله الأطفال و كان طفلا هذا ما أوحيناه إلى أمك.

و قوله: «و ألقيت عليك محبة مني و لتصنع على عيني» ظاهر السياق أن هذا الفصل إلى قوله: «و لا تحزن» فصل ثان تال للفصل السابق متمم له و المجموع بيان للمن المشار إليه بقوله: «و لقد مننا عليك مرة أخرى».

فالفصل الأول يقص الوحي إلى أمه بقذفه في التابوت ثم في البحر لينتهي إلى فرعون فيأخذه عدو الله و عدوه و الفصل الثاني يقص إلقاء المحبة عليه لينصرف فرعون عن قتله و يحسن إليه حتى ينتهي الأمر إلى رجوعه إلى أمه و استقراره في حجرها لتقر عينها و لا تحزن و قد وعدها الله ذلك كما قال في سورة القصص: «فرددناه إلى أمه كي تقر عينها و لا تحزن و لتعلم أن وعد الله حق»: القصص: 13، و لازم هذا المعنى كون الجملة أعني قوله: «و ألقيت عليك» إلخ، معطوفا على قوله: «أوحينا إلى أمك».

و معنى إلقاء محبة منه عليه كونه بحيث يحبه كل من يراه كأن المحبة الإلهية استقرت عليه فلا يقع عليه نظر ناظر إلا تعلقت المحبة بقلبه و جذبته إلى موسى، ففي الكلام استعارة تخييلية و في تنكير المحبة إشارة إلى فخامتها و غرابة أمرها.

و اللام في قوله: «و لتصنع على عيني» للغرض، و الجملة معطوفة على مقدر و التقدير ألقيت عليك محبة مني لأمور كذا و كذا و ليحسن إليك على عيني أي بمرأى مني فإني معك أراقب حالك و لا أغفل عنك لمزيد عنايتي بك و شفقتي عليك.

و ربما قيل: إن المراد بقوله: «و لتصنع على عيني» الإحسان إليه بإرجاعه إلى أمه و جعل تربيته في حجرها.

و كيف كان فهذا اللسان و هو لسان كمال العناية و الشفقة يناسب سياق التكلم وحده و لذا عدل إليه من لسان التكلم بالغير.

و قوله: «إذ تمشي أختك فتقول هل أدلكم على من يكفله فرجعناك إلى أمك كي تقر عينها و لا تحزن» الظرف - على ما يعطيه السياق - متعلق بقوله: «و لتصنع» و المعنى: و ألقيت عليك محبة مني يحبك كل من يراك لكذا و كذا و ليحسن إليك بمرأى مني و تحت مراقبتي في وقت تمشي أختك لتجوس خبرك و ترى ما يصنع بك فتجد عمال فرعون يطلبون مرضعا ترضعك فتقول لهم - و الاستقبال في الفعل لحكاية الحال الماضية - عارضة عليهم: هل أدلكم على من يكفله بالحضانة و الإرضاع فرددناك إلى أمك كي تسر و لا تحزن.

و قوله: «فرجعناك» بصيغة المتكلم مع الغير رجوع إلى السياق السابق و هو التكلم بالغير و ليس بالتفات.

قوله تعالى: «و قتلت نفسا فنجيناك من الغم إلى آخر الآية، إشارة إلى من أو منن أخرى ملحقة بالمنين السابقين و هو قصة قتله (عليه السلام) القبطي و ائتمار الملإ أن يقتلوه و فراره من مصر و تزوجه هناك ببنت شعيب النبي و بقاؤه عنده بين أهل مدين عشر سنين أجيرا يرعى غنم شعيب، و القصة مفصلة مذكورة في سورة القصص.

فقوله: «و قتلت نفسا» هو قتله القبطي بمصر، و قوله: «فنجيناك من الغم» و هو ما كان يخافه أن يقتله الملأ من آل فرعون فأخرجه الله إلى أرض مدين فلما أحضره شعيب و ورد عليه و قص عليه القصص قال لا تخف نجوت من القوم الظالمين.

يتبع...

العودة إلى القائمة

التالي