الميزان في تفسير القرآن

سورة طه

9 - 48

تابع
وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى (9) إِذْ رَأَى نَارًا فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَّعَلِّي آتِيكُم مِّنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى (10) فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِي يَا مُوسَى (11) إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى (12) وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى (13) إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي (14) إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى (15) فَلاَ يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لاَ يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى (16) وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى (17) قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى (18) قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَى (19) فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى (20) قَالَ خُذْهَا وَلا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الأُولَى (21) وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاء مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرَى (22) لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الْكُبْرَى (23) اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (24) قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (25) وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي (26) وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي (27) يَفْقَهُوا قَوْلِي (28) وَاجْعَل لِّي وَزِيرًا مِّنْ أَهْلِي (29) هَارُونَ أَخِي (30) اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (31) وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي (32) كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا (33) وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا (34) إِنَّكَ كُنتَ بِنَا بَصِيرًا (35) قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى (36) وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى (37) إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى (38) أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِّي وَعَدُوٌّ لَّهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي (39) إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَن يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْسًا فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى (40) وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي (41) اذْهَبْ أَنتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلا تَنِيَا فِي ذِكْرِي (42) اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (43) فَقُولا لَهُ قَوْلا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى (44) قَالا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَن يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَن يَطْغَى (45) قَالَ لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى (46) فَأْتِيَاهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكَ وَالسَّلامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى (47) إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَن كَذَّبَ وَتَوَلَّى (48)

و قوله: «و فتناك فتونا» أي ابتليناك و اختبرناك ابتلاء و اختبارا، قال الراغب من المفردات،: أصل الفتن إدخال الذهب النار لتظهر جودته من رداءته، و استعمل في إدخال الإنسان النار، قال: «يوم هم على النار يفتنون» «ذوقوا فتنكم» أي عذابكم، قال: و تارة يسمون ما يحصل عنه العذاب فتنة فيستعمل فيه نحو قوله: «ألا في الفتنة سقطوا» و تارة في الاختبار، نحو: «و فتناك فتونا» و جعلت الفتنة كالبلاء في أنهما تستعملان فيما يدفع إليه الإنسان من شدة و رخاء و هما في الشدة أظهر معنى و أكثر استعمالا و قد قال فيهما: «و نبلوكم بالشر و الخير فتنة» انتهى موضع الحاجة من كلامه.

و قوله: «فلبثت سنين في أهل مدين» متفرع على الفتنة.

و قوله: «ثم جئت على قدر يا موسى» لا يبعد أن يستفاد من السياق أن المراد بالقدر هو المقدر و هو ما حصله من العلم و العمل عن الابتلاءات الواردة عليه في نجاته من الغم بالخروج من مصر و لبثه في أهل مدين.

و على هذا فمجموع قوله: «و قتلت نفسا فنجيناك» - إلى قوله - يا موسى» من واحد و هو أنه ابتلي ابتلاء بعد ابتلاء حتى جاء على قدر و هو ما اكتسبه من فعلية الكمال.

و ربما أجيب عن الاستشكال في عد الفتن من المن بأن الفتن هاهنا بمعنى التخليص كتخليص الذهب بالنار، و ربما أجيب بأن كونه منا باعتبار الثواب المترتب على ذلك، و الوجهان مبنيان على فصل قوله: «فلبثت» إلى آخر الآية عما قبله و لذا قال بعضهم: إن المراد بالفتنة هو ما قاساه موسى من الشدة بعد خروجه من مصر إلى أن استقر في مدين لمكان فاء التفريع في قوله: «فلبثت سنين في أهل مدين» الدال على تأخر اللبث عن الفتنة زمانا، و فيه أن الفاء إنما تدل على التفرع فحسب و ليس من الواجب أن يكون تفرعا زمانيا دائما.

و قال بعضهم: إن القدر بمعنى التقدير و المراد ثم جئت إلى أرض مصر على ما قدرنا ثم اعترض على أخذ القدر بمعنى المقدار بأن المعروف من القدر بهذا المعنى هو ما كان بسكون الدال لا بفتحها و فيه أن القدر و القدر بسكون الدال و فتحها - كما صرحوا به كالنعل و النعل بمعنى واحد.

على أن القدر بمعنى المقدار كما قدمناه - أكثر ملاءمة للسياق أو متعين.

و ذكر لمجيئه على مقدار بعض معان أخر و هي سخيفة لا جدوى فيها.

و ختم ذكر المن بنداء موسى (عليه السلام) زيادة تشريف له.

قوله تعالى: «و اصطنعتك لنفسي» الاصطناع افتعال من الصنع بمعنى الإحسان - على ما ذكروا - يقال: صنعه أي أحسن إليه و اصطنعه أي حقق إحسانه إليه و ثبته فيه، و نقل عن القفال أن معنى الاصطناع أنه يقال: اصطنع فلان فلانا إذا أحسن إليه حتى يضاف إليه فيقال: هذا صنيع فلان و خريجه.

انتهى.

و على هذا يئول معنى اصطناعه إياه إلى إخلاصه تعالى إياه لنفسه و يظهر موقع قوله: «لنفسي» أتم ظهور و أما على المعنى الأول فالأنسب بالنظر إلى السياق أن يكون الاصطناع مضمنا معنى الإخلاص، و المعنى على أي حال و جعلتك خالصا لنفسي فيما عندك من النعم فالجميع مني و إحساني و لا يشاركني فيك غيري فأنت لي مخلصا و ينطبق ذلك على قوله: «و اذكر في الكتاب موسى إنه كان مخلصا»: مريم: 51.

و من هنا يظهر أن قول بعضهم: المراد بالاصطناع الاختيار، و معنى اختياره لنفسه جعله حجة بينه و بين خلقه كلامه كلامه و دعوته دعوته و كذا قول بعضهم إن المراد بقوله: «لنفسي» لوحيي و رسالتي، و قول آخرين: لمحبتي، كل ذلك من قبيل التقييد من غير مقيد.

و يظهر أيضا أن اصطناعه لنفسه منظوم في سلك المنن المذكورة بل هو أعظم النعم و من الممكن أن يكون معطوفا على قوله: «جئت على قدر» عطف تفسير.

و الاعتراض على هذا المعنى بأن توسيط النداء بينه و بين المنن المذكورة لا يلائم كونه منظوما في سلكها - على ما ذكر الفخر الرازي في تفسيره، - فالأولى جعله تمهيدا لإرساله إلى فرعون مع شركة من أخيه في أمره.

و فيه أن توسيط النداء لا ينحصر وجهه فيما ذكر فلعل الوجه فيه تشريفه بمزيد اللطف و تقريبه من موقف الأنس ليكون ذلك تمهيدا للالتفات ثانيا من التكلم بالغير إلى التكلم وحده بقوله: «و اصطنعتك لنفسي».

قوله تعالى: «اذهب أنت و أخوك بآياتي و لا تنيا في ذكري» تجديد للأمر السابق خطابا لموسى وحده في قوله: «اذهب إلى فرعون إنه طغى» بتغيير ما فيه بإلحاق أخي موسى به لتغير ما في المقام بإيتاء سؤال موسى أن يشرك هارون في أمره فوجه الخطاب ثانيا إليهما معا.

و أمرهما أن يذهبا بآياته و لم يؤت وقتئذ إلا آيتين وعد جميل بأنه مؤيد بغيرهما و سيؤتاه حين لزومه، و أما القول بأن المراد هما الآيتان و الجمع ربما يطلق على الاثنين، أو أن كلا من الآيتين ينحل إلى آيات كثيرة مما لا ينبغي الركون إليه.

و قوله: «و لا تنيا في ذكري» نهي عن الوني و هو الفتور، و الأنسب للسياق السابق أن يكون المراد بالذكر الدعوة إلى الإيمان به تعالى وحده لا ذكره بمعنى التوجه إليه قلبا أو لسانا كما قيل.

قوله تعالى: «اذهبا إلى فرعون إنه طغى فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى» جمعهما في الأمر ثانيا فخاطب موسى و هارون معا و كذلك في النهي الذي قبله في قوله: «و لا تنيا» و قد مهد لذلك بإلحاق هارون بموسى في قوله: «اذهب أنت و أخوك» و ليس ببعيد أن يكون نقلا لمشافهة أخرى و تخاطب وقع بينه تعالى و بين رسوليه مجتمعين أو متفرقين بعد ذاك الموقف و يؤيده سياق قوله بعد: «قالا ربنا إننا نخاف أن يفرط علينا» إلخ.

و المراد بقوله: «فقولا له قولا لينا» المنع من أن يكلماه بخشونة و عنف و هو من أوجب آداب الدعوة.

و قوله: «لعله يتذكر أو يخشى» رجاء لتذكره أو خشيته و هو قائم بمقام المحاورة لا به تعالى العالم بما سيكون، و التذكر مطاوعة التذكير فيكون قبولا و التزاما لما تقتضيه حجة المذكر و إيمانه به و الخشية من مقدمات القبول و الإيمان فمآل المعنى لعله يؤمن أو يقرب من ذلك فيجيبكم إلى بعض ما تسألانه.

و استدل بعض من يرى قبول إيمان فرعون حين الغرق على إيمانه بالآية استنادا إلى أن «لعل» من الله واجب الوقوع كما نسب إلى ابن عباس و قدماء المفسرين فالآية تدل على تحتم وقوع أحد الأمرين التذكر أو الخشية و هو مدار النجاة.

و فيه أنه ممنوع و لا تدل عسى و لعل في كلامه تعالى إلا على ما يدل عليه في كلام غيره و هو الترجي غير أن معنى الترجي في كلامه لا يقوم به، تعالى عن الجهل و تقدس و إنما يقوم بالمقام بمعنى أن من وقف هذا الموقف و اطلع على أطراف الكلام فهم أن من المرجو أن يقع كذا و كذا و أما في كلام غيره فربما قام الترجي بنفس المتكلم و ربما قام بمقام التخاطب.

و قال الإمام الرازي في تفسيره، إنه لا يعلم سر إرساله تعالى إلى فرعون مع علمه بأنه لا يؤمن إلا الله، و لا سبيل في المقام و أمثاله إلى غير التسليم و ترك الاعتراض.

و هو عجيب فإنه إن كان المراد بسر الإرسال وجه صحة الأمر بالشيء مع العلم باستحالة وقوعه في الخارج فاستحالة وقوع الشيء أو وجوب وقوعه إنما ذلك حال الفعل بالقياس إلى علته التامة التي هي الفاعل و سائر العوامل الخارجة عنه في وجوده و الأمر لا يتعلق بالفعل من حيث حاله بالقياس إلى جميع أجزاء علته التامة و إنما يتعلق به من جهة حاله بالقياس إلى الفاعل الذي هو أحد أجزاء علته التامة و نسبة الفعل و عدمه إليه بالإمكان دائما لكونه علة ناقصة لا تستوجب وجود الفعل و لا عدمه فالإرسال و الدعوة و كذا الأمر صحيح بالنسبة إلى فرعون لكون الإجابة و الائتمار بالنسبة إليه نفسه اختيارية ممكنة و إن كانت بالنسبة إليه مع انضمام سائر العوامل المانعة مستحيلة ممتنعة، هذا جواب القائلين بالاختيار، و أما المجبرة - و هو منهم - فالشبهة تسري عندهم إلى جميع موارد التكاليف لعموم الجبر و قد أجابوا عنها على زعمهم بأن التكليف صوري يترتب عليه تمام الحجة و قطع المعذرة.

و إن كان المراد بسر الإرسال مع العلم بأنه لا يؤمن الفائدة المترتبة عليه بحيث يخرج بها عن اللغوية فالدعوة الحقة كما تؤثر أثرها في قوم بتكميلهم في جانب السعادة كذلك تؤثر أثرها في آخرين بتكميل شقائهم، قال تعالى: «و ننزل من القرآن ما هو شفاء و رحمة للمؤمنين و لا يزيد الظالمين إلا خسارا:» الإسراء: 82، و لو ألغي التكميل في جانب الشقاء لغا الامتحان فيه فلم تتم الحجة فيه، و لا انقطع العذر، و لو لم تتم الحجة في جانب و انتقضت لم تنجع في الجانب الآخر و هو ظاهر.

قوله تعالى: «قالا ربنا إننا نخاف أن يفرط علينا أو أن يطغى» الفرط التقدم و المراد به بقرينة مقابلته الطغيان أن يعجل بالعقوبة و لا يصبر إلى إتمام الدعوة و إظهار الآية المعجزة، و المراد بأن يطغى أن يتجاوز حده في ظلمه فيقابل الدعوة بتشديد عذاب بني إسرائيل و الاجتراء على ساحة القدس بما كان لا يجترىء عليه قبل الدعوة و نسبة الخوف إليهما لا بأس بها كما تقدم الكلام فيها في تفسير قوله تعالى: «قال خذها و لا تخف».

و استشكل على الآية بأن قوله تعالى في موضع آخر لموسى في جواب سؤاله إشراك أخيه في أمره قال: «سنشد عضدك بأخيك و نجعل لكما سلطانا فلا يصلون إليكما»: القصص: 35»، يدل على إعطاء الأمن لهما في موقف قبل هذا الموقف لقوله «سنشد عضدك بأخيك» فلا معنى لإظهارهما الخوف بعد ذلك.

و أجيب بأن خوفهما قبل كان على أنفسهما بدليل قول موسى هناك.

«و لهم علي ذنب فأخاف أن يقتلون»: الشعراء - 14، و الذي في هذه الآية خوف منهما على الدعوة كما تقدم.

على أن من الجائز أن يكون هذا الخوف المحكي في الآية هو خوف موسى قبل في موقف المناجاة و خوف هارون بعد بلوغ الأمر إليه فالتقطا و جمعا معا في هذا المورد، و قد تقدم احتمال أن يكون قوله: «اذهبا إلى فرعون» إلى آخر الآيات، حكاية كلامهما في غير موقف واحد.

قوله تعالى: «قال لا تخافا إنني معكما أسمع و أرى» أي لا تخافا من فرطه و طغيانه إنني حاضر معكما أسمع ما يقال و أرى ما يفعل فأنصركما و لا أخذلكما فهو تأمين بوعد النصرة، فقوله: «لا تخافا» تأمين، و قوله: «إنني معكما أسمع و أرى» تعليل للتأمين بالحضور و السمع و الرؤية، و هو الدليل على أن الجملة كناية عن المراقبة و النصرة و إلا فنفس الحضور و العلم يعم جميع الأشياء و الأحوال.

و قد استدل بعضهم بالآية على أن السمع و البصر صفتان زائدتان على العلم بناء على أن قوله: «إنني معكما» دال على العلم و لو دل «أسمع و أرى» عليه أيضا لزم التكرار و هو خلاف الأصل.

و هو من أوهن الاستدلال، أما أولا: فلما عرفت أن مفاد «إنني معكما» هو الحضور و الشهادة و هو غير العلم.

و أما ثانيا: فلقيام البراهين اليقينية على عينية الصفات الذاتية و هي الحياة و القدرة و العلم و السمع و البصر بعضها لبعض و المجموع للذات، و لا ينعقد مع اليقين ظهور لفظي ظني مخالف البتة.

و أما ثالثا: فلأن المسألة من أصول المعارف لا يركن فيها إلى غير العلم، فتتميم الدليل بمثل أصالة عدم التكرار كما ترى.

قوله تعالى: «فأتياه فقولا إنا رسولا ربك» إلى آخر الآية، جدد أمرهما بالذهاب إلى فرعون بعد تأمينهما و وعدهما بالحفظ و النصر و بين تمام ما يكلفان به من الرسالة و هو أن يدعوا فرعون إلى الإيمان و إلى رفع اليد عن تعذيب بني إسرائيل و إرسالهم معهما فكلما تحول حال في المحاورة جدد الأمر حسب ما يناسبه و هو قوله أولا لموسى: «اذهب إلى فرعون إنه طغى»، ثم قوله ثانيا لما ذكر أسئلته و أجيب إليها: «اذهب أنت و أخوك» «اذهبا إلى فرعون إنه طغى»، ثم قوله لما ذكرا خوفهما و أجيبا بالأمن: «فأتياه فقولا» إلخ، و فيه تفصيل ما عليهما أن يقولا له.

فقوله: «فأتياه فقولا إنا رسولا ربك» تبليغ أنهما رسولا الله، و في قوله بعد: «و السلام على من اتبع الهدى» إلخ، دعوته إلى بقية أجزاء الإيمان.

و قوله: «فأرسل معنا بني إسرائيل و لا تعذبهم» تكليف فرعي متوجه إلى فرعون.

و قوله: «قد جئناك بآية من ربك» استناد إلى حجة تثبت رسالتهما و في تنكير الآية سكوت عن العدد و إشارة إلى فخامة أمرها و كبر شأنها و وضوح دلالتها.

و قوله: «و السلام على من اتبع الهدى» كالتحية للوداع يشار به إلى تمام الرسالة و يبين به خلاصة ما تتضمنه الدعوة الدينية و هو أن السلامة منبسط على من اتبع الهدى و السعادة لمن اهتدى فلا يصادف في مسير حياته مكروها يكرهه لا في دنيا و لا في عقبى.

و قوله: «إنا قد أوحي إلينا أن العذاب على من كذب و تولى» في مقام التعليل لسابقه أي إنما نسلم على المهتدين فحسب لأن الله سبحانه أوحي إلينا أن العذاب و هو خلاف السلام على من كذب بآيات الله - أو بالدعوة الحقة التي هي الهدى - و تولى و أعرض عنها.

و في سياق الآيتين من الاستهانة بأمر فرعون و بما تزين به من زخارف الدنيا و تظاهر به من الكبر و الخيلاء ما لا يخفى، فقد قيل: «فأتياه» و لم يقل: اذهبا إليه و إتيان الشيء أقرب مساسا به من الذهاب إليه و لم يكن إتيان فرعون و هو ملك مصر و إله القبط بذاك السهل الميسور، و قيل: «فقولا» و لم يقل: فقولا له كأنه لا يعتني به، و قيل: «إنا رسولا ربك» و «بآية من ربك» فقرع سمعه مرتين بأن له ربا و هو الذي كان ينادي بقوله: «أنا ربكم الأعلى»، و قيل: «و السلام على من اتبع الهدى» و لم يورد بالخطاب إليه، و نظيره قوله: «إن العذاب على من كذب و تولى» من غير خطاب.

و هذا كله هو الأنسب تجاه ما يلوح من لحن قوله تعالى: «لا تخافا إنني معكما أسمع و أرى» من كمال الإحاطة و العزة و القدرة التي لا يقوم لها شيء.

و ليس مع ذلك فيما أمرا أن يخاطباه به من قولهما: «إنا رسولا ربك» إلى آخر الآيتين خشونة في الكلام و خروج عن لين القول الذي أمرا به أولا فإن ذلك حق القول الذي لا مناص من قرعه سمع فرعون من غير تملق و لا احتشام و تأثر من ظاهر سلطانه الباطل و عزته الكاذبة.

بحث روائي

في تفسير القمي، في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام): في قوله: «آتيكم منها بقبس» يقول: آتيكم بقبس من النار تصطلون من البرد «أو أجد على النار هدى» كان قد أخطأ الطريق يقول: أو أجد على النار طريقا.

و في الفقيه،: سئل الصادق (عليه السلام) عن قول الله عز و جل: «فاخلع نعليك - إنك بالواد المقدس طوى» قال: كانتا من جلد حمار ميت.

أقول: و رواه أيضا في تفسير القمي، مرسلا و مضمرا، و روى هذا المعنى في الدر المنثور، عن عبد الرزاق و الفاريابي و عبد بن حميد و ابن أبي حاتم عن علي.

و قد ورد ذلك في بعض الروايات، و سياق الآية يعطي أن الخلع لاحترام الموقف.

و في المجمع،: في قوله تعالى: «أقم الصلاة لذكري» قيل: معناه أقم الصلاة متى ذكرت أن عليك صلاة كنت في وقتها أم لم تكن. عن أكثر المفسرين:، و هو المروي عن أبي جعفر (عليه السلام):، و يعضده ما رواه أنس عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: من نسي صلاة فليصلها إذا ذكرها لا كفارة لها غير ذلك:، رواه مسلم في الصحيح:.

أقول: و الحديث مروي بطرق أخرى مسندة و غير مسندة عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من طرق أهل السنة و عن الصادقين (عليهما السلام) من طرق الشيعة.

و في المجمع،: في قوله تعالى: «أكاد أخفيها» روي عن ابن عباس «أكاد أخفيها عن نفسي» و هي كذلك في قراءة أبي:، و روي ذلك عن الصادق (عليه السلام):.

و في الدر المنثور، أخرج ابن مردويه و الخطيب و ابن عساكر عن أسماء بنت عميس قالت: رأيت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بإزاء ثبير و هو يقول: أشرق ثبير أشرق ثبير اللهم إني أسألك بما سألك أخي موسى أن تشرح لي صدري، و أن تيسر لي أمري و أن تحل عقدة من لساني يفقهوا قولي، و اجعل لي وزيرا من أهلي عليا أخي اشدد به أزرى و أشركه في أمري كي نسبحك كثيرا و نذكرك كثيرا إنك كنت بنا بصيرا.

أقول و روي قريبا من هذا المعنى عن السلفي عن الباقر (عليه السلام) و روي أيضا في المجمع، عن ابن عباس عن أبي ذر عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قريبا منه.

و قال في روح المعاني، بعد إيراد الحديث المذكور ما لفظه: و لا يخفى أنه يتعين هنا حمل الأمر على أمر الإرشاد و الدعوة إلى الحق و لا يجوز حمله على النبوة و لا يصح الاستدلال به على خلافة علي كرم الله وجهه بعد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بلا فصل.

و مثله: فيما ذكر ما صح من قوله (عليه السلام) له حين استخلفه في غزوة تبوك على أهل بيته «أ ما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي» انتهى.

قلت: أما الاستدلال بالحديث أو بحديث المنزلة على خلافته (عليه السلام) بلا فصل فالبحث فيه خارج عن غرض الكتاب و إنما نبحث عن المراد بقوله (صلى الله عليه وآله وسلم) في دعائه لعلي (عليه السلام): «و أشركه في أمري» طبقا لدعاء موسى (عليه السلام) المحكي في الكتاب العزيز فإن له مساسا بما فهمه (صلى الله عليه وآله وسلم) من لفظ الآية و الحديث صحيح مؤيد بحديث المنزلة المتواتر.

فمراده (صلى الله عليه وآله وسلم) بالأمر في قوله: «و أشركه في أمري» ليس هو النبوة قطعا لنص حديث المنزلة باستثناء النبوة، و هو الدليل القاطع على أن مراد موسى بالأمر في قوله: «و أشركه في أمري» ليس هو النبوة و إلا بقي قول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): «أمري» بلا معنى يفيده.

و ليس المراد بالأمر هو مطلق الإرشاد و الدعوة إلى الحق - كما ذكره - قطعا لأنه تكليف يقوم به جميع الأمة و يشاركه فيه غيره و حجة الكتاب و السنة قائمة فيه كأمثال قوله تعالى: «قل هذه سبيلي أدعوا إلى الله على بصيرة أنا و من اتبعني»: يوسف: 108، و قوله (صلى الله عليه وآله وسلم) - و قد رواه العامة و الخاصة -: فليبلغ الشاهد الغائب، و إذا كان أمرا مشتركا بين الجميع فلا معنى لسؤال إشراك علي فيه.

على أن الإضافة في قوله: «أمري» تفيد الاختصاص فلا يصدق على ما هو مشترك بين الجميع، و نظير الكلام يجري في قول موسى المحكي في الآية.

يتبع...

العودة إلى القائمة

التالي