الميزان في تفسير القرآن

سورة البقرة

213

تابع
كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ لِمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَن يَشَاء إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (213)

و من المعلوم أن الإنسان غير متمكن من تتميم هذه النقيصة من قبل نفسه فإن فطرته هي المؤدية إلى هذه النقيصة فكيف يقدر على تتميمها و تسوية طريق السعادة و الكمال في حياته الاجتماعية؟.

و إذا كانت الطبيعة الإنسانية هي المؤدية إلى هذا الاختلاف العائق للإنسان عن الوصول إلى كماله الحري به و هي قاصرة عن تدارك ما أدت إليه و إصلاح ما أفسدته، فالإصلاح لو كان يجب أن يكون من جهة غير جهة الطبيعة، و هي الجهة الإلهية التي هي النبوة بالوحي، و لذا عبر تعالى عن قيام الأنبياء بهذا الإصلاح و رفع الاختلاف بالبعث و لم ينسبه في القرآن كله إلا إلى نفسه مع أن قيام الأنبياء كسائر الأمور له ارتباطات بالمادة بالروابط الزمانية و المكانية.

فالنبوة حالة إلهية و إن شئت قل غيبية نسبتها إلى هذه الحالة العمومية من الإدراك و الفعل نسبة اليقظة إلى النوم بها يدرك الإنسان المعارف التي بها يرتفع الاختلاف و التناقض في حياة الإنسان، و هذا الإدراك و التلقي من الغيب هو المسمى في لسان القرآن بالوحي، و الحالة التي يتخذها الإنسان منه لنفسه بالنبوة.

و من هناك يظهر أن هذا أعني تأدية الفطرة إلى الاجتماع المدني من جهة و إلى الاختلاف من جهة أخرى، و عنايته تعالى بالهداية إلى تمام الخلقة مبدأ حجة على وجود النبوة، و بعبارة أخرى دليل النبوة العامة.

تقريره: أن نوع الإنسان مستخدم بالطبع، و هذا الاستخدام الفطري يؤديه إلى الاجتماع المدني و إلى الاختلاف و الفساد في جميع شئون حياته الذي يقضي التكوين و الإيجاد برفعه و لا يرتفع إلا بقوانين تصلح الحياة الاجتماعية برفع الاختلاف عنها، و هداية الإنسان إلى كماله و سعادته بأحد أمرين: إما بفطرته و إما بأمر وراءه لكن الفطرة غير كافية فإنها هي المؤدية إلى الاختلاف فكيف ترفعها؟ فوجب أن يكون بهداية من غير طريق الفطرة و الطبيعة، و هو التفهيم الإلهي غير الطبيعي المسمى بالنبوة و الوحي، و هذه الحجة مؤلفة من مقدمات مصرح بها في كتاب الله تعالى كما عرفت فيما تقدم، و كل واحدة من هذه المقدمات تجربية، بينتها التجربة للإنسان في تاريخ حياته و اجتماعاته المتنوعة التي ظهرت و انقرضت في طي القرون المتراكمة الماضية، إلى أقدم أعصار الحياة الإنسانية التي يذكرها التاريخ.

فلا الإنسان انصرف في حين من أحيان حياته عن حكم الاستخدام، و لا استخدامه لم يؤد إلى الاجتماع و قضى بحياة فردية، و لا اجتماعه المكون خلا عن الاختلاف، و لا الاختلاف ارتفع بغير قوانين اجتماعية، و لا أن فطرته و عقله الذي يعده عقلا سليما قدرت على وضع قوانين تقطع منابت الاختلاف و تقلع مادة الفساد، و ناهيك في ذلك: ما تشاهده من جريان الحوادث الاجتماعية، و ما هو نصب عينيك من انحطاط الأخلاق و فساد عالم الإنسانية، و الحروب المهلكة للحرث و النسل، و المقاتل المبيدة للملايين بعد الملايين من الناس، و سلطان التحكم و نفوذ الاستعباد في نفوس البشر و أعراضهم و أموالهم في هذا القرن الذي يسمى عصر المدنية و الرقى و الثقافة و العلم، فما ظنك بالقرون الخالية، أعصار الجهل و الظلمة؟.

و أما إن الصنع و الإيجاد يسوق كل موجود إلى كماله اللائق به فأمر جار في كل موجود بحسب التجربة و البحث، و كذا كون الخلقة و التكوين إذا اقتضى أثرا لم يقتض خلافه بعينه أمر مسلم تثبته التجربة و البحث، و أما إن التعليم و التربية الدينيين الصادرين من مصدر النبوة و الوحي يقدران على دفع هذا الاختلاف و الفساد فأمر يصدقه البحث و التجربة معا: أما البحث: فلأن الدين يدعو إلى حقائق المعارف و فواضل الأخلاق و محاسن الأفعال فصلاح العالم الإنساني مفروض فيه، و أما التجربة: فالإسلام أثبت ذلك في اليسير من الزمان الذي كان الحاكم فيه على الاجتماع بين المسلمين هو الدين، و أثبت ذلك بتربية أفراد من الإنسان صلحت نفوسهم، و أصلحوا نفوس غيرهم من الناس، على أن جهات الكمال و العروق النابضة في هيكل الاجتماع المدني اليوم التي تضمن حياة الحضارة و الرقي مرهونة التقدم الإسلامي و سريانه في العالم الدنيوي على ما يعطيه التجزية و التحليل من غير شك، و سنستوفي البحث عنه إن شاء الله في محل آخر أليق به.

و سادسا: أن الدين الذي هو خاتم الأديان يقضي بوقوف الاستكمال الإنساني، قضاء القرآن بختم النبوة و عدم نسخ الدين و ثبات الشريعة يستوجب أن الاستكمال الفردي و الاجتماعي للإنسان هو هذا المقدار الذي اعتبره القرآن في بيانه و تشريعه.

و هذا من ملاحم القرآن التي صدقها جريان تاريخ الإنسان منذ نزول القرآن إلى يومنا هذا في زمان يقارب أربعة عشر قرنا تقدم فيها النوع في الجهات الطبيعي من اجتماعه تقدما باهرا، و قطع بعدا شاسعا غير أنه وقف من جهة معارفه الحقيقية، و أخلاقه الفاضلة موقفه الذي كان عليه، و لم يتقدم حتى قدما واحدا، أو رجع أقداما خلفه القهقرى، فلم يتكامل في مجموع كماله من حيث المجموع أعني الكمال الروحي و الجسمي معا.

و قد اشتبه الأمر على من يقول: إن جعل القوانين العامة لما كان لصلاح حال البشر و إصلاح شأنه وجب أن تتبدل بتبدل الاجتماعيات في نفسها و ارتقائها و صعودها مدارج الكمال، و لا شك أن النسبة بيننا و بين عصر نزول القرآن، و تشريع قوانين الإسلام أعظم بكثير من النسبة بين ذلك العصر و عصر بعثة عيسى (عليه السلام) و موسى (عليه السلام) فكان تفاوت النسبة بين هذا العصر و عصر النبي موجبا لنسخ شرائع الإسلام و وضع قوانين أخر قابلة الانطباق على مقتضيات العصر الحاضر.

و الجواب عنه: أن الدين كما مر لم يعتبر في تشريعه مجرد الكمال المادي الطبيعي للإنسان، بل اعتبر حقيقة الوجود الإنساني، و بنى أساسه على الكمال الروحي و الجسمي معا، و ابتغى السعادة المادية و المعنوية جميعا، و لازم ذلك أن يعتبر فيه حال الفرد الاجتماعي المتكامل بالتكامل الديني دون الفرد الاجتماعي المتكامل بالصنعة و السياسة، و قد اختلط الأمر على هؤلاء الباحثين فإنهم لولوعهم في الأبحاث الاجتماعية المادية و المادة متحولة متكاملة كالاجتماع المبني عليها حسبوا أن الاجتماع الذي اعتبره الدين نظير الاجتماع الذي اعتبروه اجتماع مادي جسماني، فحكموا عليه بالتغير و النسخ حسب تحول الاجتماع المادي، و قد عرفت أن الدين لا يبني تشريعه على أساس الجسم فقط، بل الجسم و الروح جميعا، و على هذا يجب أن يفرض فرد ديني أو اجتماع ديني جامع للتربية الدينية و الحياة المادية التي سمحت به دنيا اليوم ثم لينظر هل يوجد عنده شيء من النقص المفتقر إلى التتميم، و الوهن المحتاج إلى التقوية؟.

و سابعا: أن الأنبياء (عليهم السلام) معصومون عن الخطإ.

كلام في عصمة الأنبياء

توضيح هذه النتيجة: أن العصمة على ثلاثة أقسام: العصمة عن الخطإ في تلقي الوحي، و العصمة عن الخطإ في التبليغ و الرسالة، و العصمة عن المعصية و هي ما فيه هتك حرمة العبودية و مخالفة مولوية، و يرجع بالآخرة إلى قول أو فعل ينافي العبودية منافاة ما، و نعني بالعصمة وجود أمر في الإنسان المعصوم يصونه عن الوقوع فيما لا يجوز من الخطإ أو المعصية.

و أما الخطأ في غير باب المعصية و تلقي الوحي و التبليغ، و بعبارة أخرى في غير باب أخذ الوحي و تبليغه و العمل به كالخطإ في الأمور الخارجية نظير الأغلاط الواقعة للإنسان في الحواس و إدراكاتها أو الاعتباريات من العلوم، و نظير الخطإ في تشخيص الأمور التكوينية من حيث الصلاح و الفساد و النفع و الضرر و نحوها فالكلام فيها خارج عن هذا المبحث.

و كيف كان فالقرآن يدل على عصمتهم (عليهم السلام) في جميع الجهات الثلاث: أما العصمة عن الخطإ في تلقي الوحي و تبليغ الرسالة: فيدل عليه قوله تعالى في الآية «فبعث الله النبيين مبشرين و منذرين و أنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه و ما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغيا بينهم فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه» فإنه ظاهر في أن الله سبحانه إنما بعثهم بالتبشير و الإنذار و إنزال الكتاب و هذا هو الوحي ليبينوا للناس الحق في الاعتقاد و الحق في العمل، و بعبارة أخرى لهداية الناس إلى حق الاعتقاد و حق العمل، و هذا هو غرضه سبحانه في بعثهم، و قد قال تعالى: «لا يضل ربي و لا ينسى:» طه - 52، فبين أنه لا يضل في فعله و لا يخطىء في شأنه فإذا أراد شيئا فإنما يريده من طريقه الموصل إليه من غير خطإ، و إذا سلك بفعل إلى غاية فلا يضل في سلوكه، و كيف لا و بيده الخلق و الأمر و له الملك و الحكم، و قد بعث الأنبياء بالوحي إليهم و تفهيمهم معارف الدين و لا بد أن يكون، و بالرسالة لتبليغها للناس و لا بد أن يكون! و قال تعالى أيضا: «إن الله بالغ أمره قد جعل الله لكل شيء قدرا:» الطلاق - 3، و قال أيضا: «و الله غالب على أمره:» يوسف - 21.

و يدل على العصمة عن الخطإ أيضا قوله تعالى: «عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول فإنه يسلك من بين يديه و من خلفه رصدا ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم و أحاط بما لديهم و أحصى كل شيء عددا:» الجن - 28، فظاهره أنه سبحانه يختص رسله بالوحي فيظهرهم و يؤيدهم على الغيب بمراقبة ما بين أيديهم و ما خلفهم، و الإحاطة بما لديهم لحفظ الوحي عن الزوال و التغير بتغيير الشياطين و كل مغير غيرهم، ليتحقق إبلاغهم رسالات ربهم، و نظيره قوله تعالى حكاية عن قول ملائكة الوحي «و ما نتنزل إلا بأمر ربك له ما بين أيدينا و ما خلفنا و ما بين ذلك و ما كان ربك نسيا:» مريم - 64، دلت الآيات على أن الوحي من حين شروعه في النزول إلى بلوغه النبي إلى تبليغه للناس محفوظ مصون عن تغيير أي مغير يغيره.

و هذان الوجهان من الاستدلال و إن كانا ناهضين على عصمة الأنبياء (عليهم السلام) في تلقي الوحي و تبليغ الرسالة فقط دون العصمة عن المعصية في العمل على ما قررنا، لكن يمكن تتميم دلالتهما على العصمة من المعصية أيضا بأن الفعل دال كالقول عند العقلاء فالفاعل لفعل يدل بفعله على أنه يراه حسنا جائزا كما لو قال: إن الفعل الفلاني حسن جائز فلو تحققت معصية من النبي و هو يأمر بخلافها لكان ذلك تناقضا منه فإن فعله يناقض حينئذ قوله فيكون حينئذ مبلغا لكلا المتناقضين و ليس تبليغ المتناقضين بتبليغ للحق فإن المخبر بالمتناقضين لم يخبر بالحق لكون كل منهما مبطلا للآخر، فعصمة النبي في تبليغ رسالته لا تتم إلا مع عصمته عن المعصية و صونه عن المخالفة كما لا يخفى.

و يدل على عصمتهم مطلقا قوله تعالى: «أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده:» الأنعام - 90، فجميعهم (عليهم السلام) كتب عليهم الهداية، و قد قال تعالى: «و من يضلل الله فما له من هاد و من يهدي الله فما له من مضل:» الزمر - 37.

و قال تعالى: «من يهد الله فهو المهتد:» الكهف - 17، فنفى عن المهتدين بهدايته كل مضل يؤثر فيهم بضلال، فلا يوجد فيهم ضلال، و كل معصية ضلال كما يشير إليه قوله تعالى: «أ لم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين و أن اعبدوني هذا صراط مستقيم و لقد أضل منكم جبلا كثيرا:» يس - 62، فعد كل معصية ضلالا حاصلا بإضلال الشيطان بعد ما عدها عبادة للشيطان فإثبات هدايته تعالى في حق الأنبياء (عليهم السلام) ثم نفى الضلال عمن اهتدى بهداه ثم عد كل معصية ضلالا تبرئة منه تعالى لساحة أنبيائه عن صدور المعصية منهم و كذا عن وقوع الخطإ في فهمهم الوحي و إبلاغهم إياه.

و يدل عليها أيضا قوله تعالى: و من يطع الله و الرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين و الصديقين و الشهداء و الصالحين و حسن أولئك رفيقا:» النساء - 68، و قال أيضا: «اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم و لا الضالين:» الحمد - 7، فوصف هؤلاء الذين أنعم عليهم من النبيين بأنهم ليسوا بضالين، و لو صدر عنهم معصية لكانوا بذلك ضالين و كذا لو صدر عنهم خطأ في الفهم أو التبليغ، و يؤيد هذا المعنى قوله تعالى فيما يصف به الأنبياء: «أولئك الذين أنعم الله عليهم من النبيين من ذرية آدم و ممن حملنا مع نوح و من ذرية إبراهيم و ممن هدينا و اجتبينا إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خروا سجدا و بكيا فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة و اتبعوا الشهوات و سوف يلقون غيا:» مريم - 59، فجمع في الأنبياء أولا الخصلتين: أعني الإنعام و الهداية حيث أتى بمن البيانية في قوله و ممن هدينا و اجتبينا بعد قوله: أنعم الله عليهم، و وصفهم بما فيه غاية التذلل في العبودية، ثم وصف الخلف بما وصف من أوصاف الذم، و الفريق الثاني غير الأول لأن الفريق الأول رجال ممدوحون مشكورون دون الثاني، و إذ وصف الفريق الثاني و عرفهم بأنهم اتبعوا الشهوات و سوف يلقون غيا فالفريق الأول و هم الأنبياء ما كانوا يتبعون الشهوات و لا يلحقهم غي، و من البديهي أن من كان هذا شأنه لم يجز صدور المعصية عنه حتى أنهم لو كانوا قبل نبوتهم ممن يتبع الشهوات لكانوا بذلك ممن يلحقهم الغي لمكان الإطلاق في قوله: أضاعوا الصلاة و اتبعوا الشهوات و سوف يلقون غيا.

و هذا الوجه قريب من قول من استدل على عصمة الأنبياء من طريق العقل بأن إرسال الرسل و إجراء المعجزات على أيديهم تصديق لقولهم.

فلا يصدر عنهم كذب و كذا تصديق لأهليتهم للتبليغ، و العقل لا يعد إنسانا يصدر منه المعاصي و الأفعال المنافية لمرام و مقصد كيف كان أهلا للدعوة إلى ذلك المرام فإجراء المعجزات على أيديهم يتضمن تصديق عدم خطائهم في تلقي الوحي و في تبليغ الرسالة و في امتثالهم للتكاليف المتوجه إليهم بالطاعة.

و لا يرد عليه: أن الناس و هم عقلاء يتسببون في أنواع تبليغاتهم و أقسام أغراضهم الاجتماعية بالتبليغ ممن لا يخلو عن بعض القصور و التقصير في التبليغ، فإن ذلك منهم لأحد أمرين لا يجوز فيما نحن فيه، إما لمكان المسامحة منهم في اليسير من القصور و التقصير، و إما لأن مقصودهم هو البلوغ إلى ما تيسر من الأمر المطلوب، و القبض على اليسير و الغض عن الكثير و شيء من الأمرين لا يليق بساحته تعالى.

و لا يرد عليه أيضا: ظاهر قوله تعالى: «فلو لا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين و لينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون:» التوبة - 123، فإن الآية و إن كانت في حق العامة من المسلمين ممن ليس بمعصوم لكنه أذن لهم في تبليغ ما تعلموا من الدين و تفقهوا فيه، لا تصديق لهم فيما أنذروا به و جعل حجية لقولهم على الناس و المحذور إنما هو في الثاني دون الأول.

و مما يدل على عصمتهم (عليهم السلام) قوله تعالى: «و ما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله:» النساء - 64، حيث جعل كون الرسول مطاعا غاية للإرسال، و قصر الغاية فيه، و ذلك يستدعي بالملازمة البينة تعلق إرادته تعالى بكل ما يطاع فيه الرسول و هو قوله أو فعله لأن كلا منهما وسيلة معمولة متداولة في التبليغ، فلو تحقق من الرسول خطأ في فهم الوحي أو في التبليغ كان ذلك إرادة منه تعالى للباطل و الله سبحانه لا يريد إلا الحق.

و كذا لو صدر عن الرسول معصية قولا أو فعلا و المعصية مبغوضة منهي عنها لكان بعينه متعلق إرادته تعالى فيكون بعينه طاعة محبوبة فيكون تعالى مريدا غير مريد، آمرا و ناهيا، محبا و مبغضا بالنسبة إلى فعل واحد بعينه تعالى عن تناقض الصفات و الأفعال علوا كبيرا و هو باطل و إن قلنا بجواز تكليف ما لا يطاق على ما قال به بعضهم، فإن تكليف ما لا يطاق تكليف بالمحال و ما نحن فيه تكليف نفسه محال لأنه تكليف و لا تكليف و إرادة و لا إرادة و حب و لا حب و مدح و ذم بالنسبة إلى فعل واحد!.

و مما يدل على ذلك أيضا قوله تعالى: «رسلا مبشرين و منذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل:» النساء - 165، فإن الآية ظاهرة في أن الله سبحانه يريد قطع عذر الناس في ما فيه المخالفة و المعصية و أن لا قاطع للعذر إلا الرسل (عليهم السلام)، و من المعلوم أن قطع الرسل عذر الناس و رفعهم لحجتهم إنما يصح إذا لم يتحقق في ناحيتهم ما لا يوافق إرادة الله و رضاه: من قول أو فعل، و خطإ أو معصية و إلا كان للناس أن يتمسكوا به و يحتجوا على ربهم سبحانه و هو نقض لغرضه تعالى.

فإن قلت: الذي يدل عليه ما مر من الآيات الكريمة هو أن الأنبياء (عليهم السلام) لا يقع منهم خطأ و لا يصدر عنهم معصية و ليس ذلك من العصمة في شيء فإن العصمة على ما ذكره القوم قوة تمنع الإنسان عن الوقوع في الخطإ، و تردعه عن فعل المعصية و اقتراف الخطيئة، و ليست القوة مجرد صدور الفعل أو عدم صدوره و إنما هي مبدأ نفساني تصدر عنه الفعل كما تصدر الأفعال عن الملكات النفسانية.

قلت: نعم لكن الذي يحتاج إليه في الأبحاث السابقة هو عدم تحقق الخطإ و المعصية من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و لا يضر في ذلك عدم ثبوت قوة تصدر عنها الفعل صوابا أو طاعة و هو ظاهر.

و مع ذلك يمكن الاستدلال على كون العصمة مستندة إلى قوة رادعة بما مر في البحث عن الإعجاز من دلالة قوله تعالى: «إن الله بالغ أمره قد جعل الله لكل شيء قدرا:» الطلاق - 3، و كذا قوله تعالى: «إن ربي على صراط مستقيم:» هود - 56، على أن كلا من الحوادث يحتاج إلى مبدإ يصدر عنه و سبب يتحقق به، فهذه الأفعال الصادرة عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) على وتيرة واحدة صوابا و طاعة تنتهي إلى سبب مع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و في نفسه و هي القوة الرادعة و توضيحه: أن أفعال النبي المفروض صدورها طاعة أفعال اختيارية من نوع الأفعال الاختيارية الصادرة عنا التي بعضها طاعة و بعضها معصية، و لا شك أن الفعل الاختياري إنما هو اختياري بصدوره عن العلم و المشية، و إنما يختلف الفعل طاعة و معصية باختلاف الصورة العلمية التي يصدر عنها، فإن كان المقصود هو الجري على العبودية بامتثال الأمر مثلا تحققت الطاعة، و إن كان المطلوب - أعني الصورة العلمية التي يضاف إليها المشية - اتباع الهوى و اقتراف ما نهى الله عنه تحققت المعصية، فاختلاف أفعالنا طاعة و معصية لاختلاف علمنا الذي يصدر عنه الفعل، و لو دام أحد العلمين أعني الحكم بوجوب الجري على العبودية و امتثال الأمر الإلهي لما صدر إلا الطاعة، و لو دام العلم الآخر الصادر عنه المعصية و العياذ بالله لم يتحقق إلا المعصية، و على هذا فصدور الأفعال عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بوصف الطاعة دائما ليس إلا لأن العلم الذي يصدر عنه فعله بالمشية صورة علمية صالحة غير متغيرة، و هو الإذعان بوجوب العبودية دائما، و من المعلوم أن الصورة العلمية و الهيئة النفسانية الراسخة غير الزائلة هي الملكة النفسانية كملكة العفة و الشجاعة و العدالة و نحوها، ففي النبي ملكة نفسانية يصدر عنها أفعاله على الطاعة و الانقياد و هي القوة الرادعة عن المعصية.

و من جهة أخرى النبي لا يخطىء في تلقي الوحي و لا في تبليغ الرسالة ففيه هيئة نفسانية لا تخطىء في تلقي المعارف و تبليغها و لا تعصي في العمل و لو فرضنا أن هذه الأفعال و هي على وتيرة واحدة ليس فيها إلا الصواب و الطاعة تحققت منه من غير توسط سبب من الأسباب يكون معه، و لا انضمام من شيء إلى نفس النبي كان معنى ذلك أن تصدر أفعاله الاختيارية على تلك الصفة بإرادة من الله سبحانه من غير دخالة للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فيه، و لازم ذلك إبطال علم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و إرادته في تأثيرها في أفعاله و في ذلك خروج الأفعال الاختيارية عن كونها اختيارية، و هو ينافي افتراض كونه فردا من أفراد الإنسان الفاعل بالعلم و الإرادة، فالعصمة من الله سبحانه إنما هي بإيجاد سبب في الإنسان النبي يصدر عنه أفعاله الاختيارية صوابا و طاعة و هو نوع من العلم الراسخ و هو الملكة كما مر. كلام في النبوة

و الله سبحانه بعد ما ذكر هذه الحقيقة و هي وصف إرشاد الناس بالوحي في كلامه كثيرا عبر عن رجالها بتعبيرين مختلفين فيه تقسيمهم إلى قسمين أو كالتقسيم: و هما الرسول و النبي، قال تعالى: «و جيء بالنبيين و الشهداء:» الزمر - 69، و قال تعالى: «يوم يجمع الله الرسل ما ذا أجبتم:» المائدة - 109، و معنى الرسول حامل الرسالة، و معنى النبي حامل النبإ، فللرسول شرف الوساطة بين الله سبحانه و بين خلقه و للنبي شرف العلم بالله و بما عنده.

و قد قيل إن الفرق بين النبي و الرسول بالعموم و الخصوص المطلق فالرسول هو الذي يبعث فيؤمر بالتبليغ و يحمل الرسالة، و النبي هو الذي يبعث سواء أمر بالتبليغ أم لم يؤمر.

لكن هذا الفرق لا يؤيده كلامه تعالى كقوله تعالى: «و اذكر في الكتاب موسى إنه كان مخلصا و كان رسولا نبيا:» مريم - 51، و الآية في مقام المدح و التعظيم و لا يناسب هذا المقام التدرج من الخاص إلى العام كما لا يخفى.

و كذا قوله تعالى: «و ما أرسلنا من قبلك من رسول و لا نبي:» الحج - 51، حيث جمع في الكلام بين الرسول و النبي ثم جعل كلا منهما مرسلا لكن قوله تعالى: «و وضع الكتاب و جيء بالنبيين و الشهداء:» الزمر - 69، و كذا قوله تعالى: «و لكن رسول الله و خاتم النبيين:» الأحزاب - 40، و كذا ما في الآية المبحوث عنها من قوله تعالى: «فبعث الله النبيين مبشرين و منذرين» إلى غير ذلك من الآيات يعطي ظاهرها أن كل مبعوث من الله بالإرسال إلى الناس نبي و لا ينافي ذلك ما مر من قوله تعالى: و كان رسولا نبيا الآية، فإن اللفظين قصد بهما معناهما من غير أن يصيرا اسمين مهجوري المعنى فالمعنى و كان رسولا خبيرا بآيات الله و معارفه، و كذا قوله تعالى: «و ما أرسلنا من قبلك من رسول و لا نبي الآية لإمكان أن يقال: إن النبي و الرسول كليهما مرسلان إلى الناس، غير أن النبي بعث لينبىء الناس بما عنده من نبإ الغيب لكونه خبيرا بما عند الله، و الرسول هو المرسل برسالة خاصة زائدة على أصل نبإ النبوة كما يشعر به أمثال قوله تعالى: «و لكل أمة رسول فإذا جاء رسولهم قضي بينهم بالحق:» يونس - 47، و قوله تعالى: «و ما كنا معذبين حتى نبعث رسولا:» الإسراء - 15، و على هذا فالنبي هو الذي يبين للناس صلاح معاشهم و معادهم من أصول الدين و فروعه على ما اقتضته عناية الله من هداية الناس إلى سعادتهم، و الرسول هو الحامل لرسالة خاصة مشتملة على إتمام حجة يستتبع مخالفته هلاكه أو عذابا أو نحو ذلك قال تعالى: «لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل:» النساء - 165، و لا يظهر من كلامه تعالى في الفرق بينهما أزيد مما يفيده لفظاهما بحسب المفهوم، و لازمه هو الذي أشرنا إليه من أن للرسول شرف الوساطة بين الله تعالى و بين عباده و للنبي شرف العلم بالله و بما عنده و سيأتي ما روي عن أئمة أهل البيت « (عليهم السلام)» من الفرق بينهما.

ثم إن القرآن صريح في أن الأنبياء كثيرون و إن الله سبحانه لم يقصص الجميع في كتابه، قال تعالى: «و لقد أرسلنا رسلا من قبلك منهم من قصصنا عليك و منهم من لم نقصص عليك:» المؤمن - 78، إلى غير ذلك و الذين قصهم الله تعالى في كتابه بالاسم بضعة و عشرون نبيا و هم: آدم، و نوح، و إدريس، و هود، و صالح، و إبراهيم، و لوط، و إسماعيل، و اليسع، و ذو الكفل، و إلياس، و يونس، و إسحاق، و يعقوب، و يوسف، و شعيب، و موسى، و هارون، و داود، و سليمان، و أيوب، و زكريا، و يحيى، و إسماعيل صادق الوعد، و عيسى، و محمد صلى الله عليهم أجمعين.

و هناك عدة لم يذكروا بأسمائهم بل بالتوصيف و الكناية، قال سبحانه: أ لم تر إلى الملإ من بني إسرائيل من بعد موسى إذ قالوا لنبي لهم ابعث لنا ملكا:» البقرة - 246 و قال تعالى: «أو كالذي مر على قرية و هي خاوية على عروشها:» البقرة - 259، و قال تعالى: «إذ أرسلنا إليهم اثنين فكذبوهما فعززنا بثالث:» يس - 14، و قال تعالى: «فوجدا عبدا من عبادنا آتيناه من لدنا علما:» الكهف - 65، و قال تعالى: «و الأسباط:» البقرة - 136، و هناك من لم يتضح كونه نبيا كفتى موسى في قوله تعالى: «و إذ قال موسى لفتاه:» الكهف - 60، و مثل ذي القرنين و عمران أبي مريم و عزير من المصرح بأسمائهم.

و بالجملة لم يذكر في القرآن لهم عدد يقفون عنده و الذي يشتمل من الروايات على بيان عدتهم آحاد مختلفة المتون و أشهرها رواية أبي ذر عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): أن الأنبياء مائة و أربعة و عشرون ألف نبي، و المرسلون منهم ثلاثمائة و ثلاثة عشر نبيا.

و اعلم: أن سادات الأنبياء هم أولوا العزم منهم و هم: نوح، و إبراهيم، و موسى و عيسى، و محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، قال تعالى: «فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل:» الأحقاف - 35، و سيجيء أن معنى العزم فيهم الثبات على العهد الأول المأخوذ منهم و عدم نسيانه، قال تعالى: «و إذ أخذنا من النبيين ميثاقهم و منك و من نوح و إبراهيم و موسى و عيسى و أخذنا منهم ميثاقا غليظا:» الأحزاب - 7، و قال تعالى: «و لقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي و لم نجد له عزما:» طه - 115.

و كل واحد من هؤلاء الخمسة صاحب شرع و كتاب، قال تعالى: «شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا و الذي أوحينا إليك و ما وصينا به إبراهيم و موسى و عيسى:» الشورى - 13، و قال تعالى: «إن هذا لفي الصحف الأولى صحف إبراهيم و موسى:» الأعلى - 19، و قال تعالى: «إنا أنزلنا التوراة فيها هدى يحكم بها النبيون، إلى أن قال: «و قفينا على آثارهم بعيسى بن مريم مصدقا لما بين يديه من التوراة و آتيناه الإنجيل فيه هدى و نور - إلى أن قال - و أنزلنا إليك الكتاب مصدقا لما بين يديه من الكتاب و مهيمنا عليه فاحكم بينهم بما أنزل الله و لا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق لكل جعلنا منكم شرعة و منهاجا و لو شاء الله لجعلكم أمة واحدة و لكن ليبلوكم فيما آتاكم:» المائدة - 48.

و الآيات تبين أن لهم شرائع و أن لإبراهيم و موسى و عيسى و محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) كتبا، و أما كتاب نوح فقد عرفت أن الآية أعني قوله تعالى: كان الناس أمة واحدة «إلخ»، بانضمامه إلى قوله تعالى شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا الآية تدل عليه، و هذا الذي ذكرناه لا ينافي نزول الكتاب على داود (عليه السلام)، قال تعالى: «و آتينا داود زبورا:» النساء - 163، و لا ما في الروايات من نسبة كتب إلى آدم، و شيث، و إدريس، فإنها كتب لا تشتمل على الأحكام و الشرائع.

و اعلم أن من لوازم النبوة الوحي و هو نوع تكليم إلهي تتوقف عليه النبوة قال تعالى: «إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح و النبيين من بعده:» النساء - 163، و سيجيء استيفاء البحث عن معناه في سورة الشورى إن شاء الله.

بحث روائي

في المجمع، عن الباقر (عليه السلام) أنه قال: كان الناس قبل نوح أمة واحدة على فطرة الله لا مهتدين و لا ضالين فبعث الله النبيين.

و في تفسير العياشي، عن الصادق (عليه السلام) في الآية قال: و كان ذلك قبل نوح فقيل: فعلى هدى كانوا؟ قال بل كانوا ضلالا، و ذلك أنه لما انقرض آدم و صالح ذريته، و بقي شيث وصيه لا يقدر على إظهار دين الله الذي كان عليه آدم و صالح ذريته و ذلك أن قابيل كان يواعده بالقتل كما قتل أخاه هابيل، فصار فيهم بالتقية و الكتمان فازدادوا كل يوم ضلالة حتى لم يبق على الأرض معهم إلا من هو سلف، و لحق الوصي بجزيرة من البحر ليعبد الله فبدا لله تبارك و تعالى أن يبعث الرسل، و لو سئل هؤلاء الجهال لقالوا قد فرغ من الأمر، و كذبوا، إنما هو شيء يحكم الله في كل عام ثم قرأ: فيها يفرق كل أمر حكيم، فيحكم الله تبارك و تعالى: ما يكون في تلك السنة من شدة أو رخاء أو مطر أو غير ذلك، قلت أ فضلالا كانوا قبل النبيين أم على هدى؟ قال: لم يكونوا على هدى، كانوا على فطرة الله التي فطرهم عليها، لا تبديل لخلق الله، و لم يكونوا ليهتدوا حتى يهديهم الله، أ ما تسمع بقول إبراهيم: لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين أي ناسيا للميثاق.

أقول: قوله: لم يكونوا على هدى كانوا على فطرة الله، يفسر معنى كونهم ضلالا المذكور في أول الحديث، و أنهم إنما خلوا عن الهداية التفصيلية إلى المعارف الإلهية، و أما الهداية الإجمالية فهي تجامع الضلال بمعنى الجهل بالتفاصيل كما يشير إليه قوله (عليه السلام) في رواية المجمع، المنقولة آنفا: على فطرة الله لا مهتدين و لا ضلالا.

و قوله (صلى الله عليه وآله وسلم): أي ناسيا للميثاق، تفسير للضلال فالهداية هي ذكر الميثاق حقيقة كما في الكمل من المؤمنين أو الجري على حال من هو ذاكر للميثاق و إن لم يكن ذاكرا له حقيقة و هو حال سائر المؤمنين و لا يخلو إطلاق الهداية عليه من عناية.

و في التوحيد، عن هشام بن الحكم قال: سأل الزنديق الذي أتى أبا عبد الله فقال: من أين أثبت أنبياء و رسلا؟ قال أبو عبد الله (عليه السلام): إنا لما أثبتنا: أن لنا خالقا صانعا متعاليا عنا و عن جميع ما خلق، و كان ذلك الصانع حكيما لم يجز أن يشاهده خلقه، و لا يلامسوه، و لا يباشرهم و لا يباشروه و يحاجهم و يحاجوه، فثبت أن له سفراء في خلقه يدلونهم على مصالحهم و منافعهم و ما فيه بقاؤهم، و في تركه فناؤهم، فثبت الآمرون الناهون عن الحكيم العليم في خلقه، و ثبت عند ذلك أن له معبرين و هم الأنبياء و صفوته من خلقه، حكماء مؤدبون بالحكمة مبعوثين بها، غير مشاركين للناس في أحوالهم، على مشاركتهم لهم في الخلق و التركيب، مؤيدين من عند الحكيم العليم بالحكمة و الدلائل و البراهين و الشواهد، من إحياء الموتى، و إبراء الأكمه و الأبرص فلا يخلو أرض الله من حجة يكون معه علم يدل على صدق مقال الرسول و وجوب عدالته.

أقول: و الحديث كما ترى مشتمل على حجج ثلاث في مسائل ثلاث من النبوة.

إحداها: الحجة على النبوة العامة و بالتأمل فيما ذكره (صلى الله عليه وآله وسلم) تجد أنه منطبق على ما استفدنا من قوله تعالى: كان الناس أمة واحدة الآية.

و ثانيتها: الحجة على لزوم تأييد النبي بالمعجزة، و ما ذكره (عليه السلام) منطبق على ما ذكرناه في البحث عن الإعجاز في بيان قوله تعالى: «و إن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله:» البقرة - 23.

و ثالثتها: مسألة عدم خلو الأرض عن الحجة و سيأتي بيانه إن شاء الله.

و في المعاني، و الخصال، عن عتبة الليثي عن أبي ذر رحمه الله قال: قلت يا رسول الله كم النبيون؟ قال: مائة و أربعة و عشرون ألف نبي، قلت: كم المرسلون منهم؟ قال ثلاثمائة و ثلاثة عشر جما غفيرا، قلت من كان أول الأنبياء؟ قال: آدم، قلت: و كان من الأنبياء مرسلا؟ قال: نعم خلقه الله بيده و نفخ فيه من روحه، ثم قال يا أبا ذر أربعة من الأنبياء سريانيون: آدم و شيث، و أخنوخ و هو إدريس و هو أول من خط بالقلم، و نوح، و أربعة من العرب: هود، و صالح، و شعيب، و نبيك محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، و أول نبي من بني إسرائيل موسى و آخرهم عيسى و ستمائة نبي، قلت: يا رسول الله! كم أنزل الله تعالى من كتاب؟ قال: مائة كتاب و أربعة كتب، أنزل الله على شيث خمسين صحيفة و على إدريس ثلاثين صحيفة، و على إبراهيم عشرين صحيفة، و أنزل التوراة، و الإنجيل، و الزبور، و الفرقان.

أقول: و الرواية و خاصة صدرها المتعرض لعدد الأنبياء و المرسلين من المشهورات روتها الخاصة و العامة في كتبهم، و روى هذا المعنى الصدوق في الخصال، و الأمالي، عن الرضا عن آبائه عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و عن زيد بن علي عن آبائه عن أمير المؤمنين (عليه السلام) و رواه ابن قولويه في كامل الزيارة، و السيد في الإقبال، عن السجاد (عليه السلام)، و في البصائر، عن الباقر (عليه السلام).

و في الكافي، عن الباقر (عليه السلام): في قوله تعالى: و كان رسولا نبيا الآية قال: النبي الذي يرى في منامه و يسمع الصوت و لا يعاين الملك، و الرسول الذي يسمع الصوت و لا يرى في المنام و يعاين.

أقول: و في هذا المعنى روايات أخر، و من الممكن أن يستفاد ذلك من مثل قوله تعالى: «فأرسل إلى هارون:» الشعراء - 13، و ليس معناها أن معنى الرسول هو المرسل إليه ملك الوحي بل المقصود أن النبوة و الرسالة مقامان خاصة أحدهما الرؤيا و خاصة الآخر مشاهدة ملك الوحي، و ربما اجتمع المقامان في واحد فاجتمعت الخاصتان، و ربما كانت نبوة من غير رسالة، فيكون الرسالة أخص من النبوة مصداقا لا مفهوما كما يصرح به الحديث السابق عن أبي ذر حيث يقول: قلت: كم المرسلون منهم؟ فقد تبين أن كل رسول نبي و لا عكس.

و بذلك يظهر الجواب عما اعترضه بعضهم على دلالة قوله تعالى: «و لكن رسول الله و خاتم النبيين:» الأحزاب - 40، إنه إنما يدل على ختم النبوة دون ختم الرسالة مستدلا بهذه الرواية و نظائرها.

و الجواب: أن النبوة أعم مصداقا من الرسالة و ارتفاع الأعم يستلزم ارتفاع الأخص و لا دلالة في الروايات كما عرفت على العموم من وجه بين الرسالة و النبوة بل الروايات صريحة في العموم المطلق.

و في العيون، عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام) قال: إنما سمي أولو العزم أولي العزم لأنهم كانوا أصحاب العزائم و الشرائع، و ذلك أن كل نبي كان بعد نوح كان على شريعته و منهاجه و تابعا لكتابه إلى زمن إبراهيم الخليل، و كل نبي كان في أيام إبراهيم كان على شريعة إبراهيم و منهاجه و تابعا لكتابه إلى زمن موسى، و كل نبي كان في زمن موسى كان على شريعة موسى و منهاجه و تابعا لكتابه إلى أيام عيسى و كل نبي كان في أيام عيسى و بعده كان على شريعة عيسى و منهاجه و تابعا لكتابه إلى زمن نبينا محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) فهؤلاء الخمسة أولو العزم، و هم أفضل الأنبياء و الرسل (عليهم السلام) و شريعة محمد لا تنسخ إلى يوم القيامة، و لا نبي بعده إلى يوم القيامة فمن ادعى بعده النبوة أو أتى بعد القرآن بكتاب فدمه مباح لكل من سمع ذلك منه.

أقول: و روى هذا المعنى صاحب قصص الأنبياء، عن الصادق (عليه السلام).

و في تفسير القمي،: في قوله تعالى: فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل الآية، و هم نوح، و إبراهيم، و موسى، و عيسى بن مريم (عليهما السلام)، و معنى أولي العزم أنهم سبقوا الأنبياء إلى الإقرار بالله و أقروا بكل نبي كان قبلهم و بعدهم: و عزموا على الصبر مع التكذيب لهم و الأذى.

أقول: و روي من طرق أهل السنة و الجماعة عن ابن عباس و قتادة: أن أولي العزم من الأنبياء خمسة: نوح، و إبراهيم، و موسى، و عيسى، و محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) كما رويناه من طرق أهل البيت، و هناك أقوال أخر منسوبة إلى بعضهم: فذهب بعضهم إلى أنهم ستة: نوح، و إبراهيم، و إسحاق، و يعقوب، و يوسف، و أيوب، و ذهب بعضهم إلى أنهم الذين أمروا بالجهاد و القتال و أظهروا المكاشفة و جاهدوا في الدين، و ذهب بعضهم إلى أنهم أربعة: إبراهيم، و نوح، و هود، و رابعهم محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، و هذه أقوال خالية عن الحجة و قد ذكرنا الوجه في ذلك.

و في تفسير العياشي، عن الثمالي عن أبي جعفر (عليه السلام)، قال:؟ كان ما بين آدم و بين نوح من الأنبياء مستخفين، و لذلك خفي ذكرهم في القرآن فلم يسموا كما سمي من استعلن من الأنبياء الحديث.

أقول: و روي هذا المعنى عن أهل بيت العصمة (عليهم السلام) بطرق كثيرة.

و في الصافي، عن المجمع عن علي (عليه السلام): بعث الله نبيا أسود لم يقص علينا قصته و في النهج، قال (عليه السلام): في خطبة له يذكر فيها آدم (عليه السلام): فأهبطه إلى دار البلية و تناسل الذرية، و اصطفى سبحانه من ولده أنبياء أخذ على الوحي ميثاقهم، و على تبليغ الرسالة أمانتهم، لما بدل أكثر خلقه عهد الله إليهم، فجهلوا حقه، و اتخذوا الأنداد معه، و اجتالتهم الشياطين عن معرفته، و اقتطعتهم عن عبادته، فبعث فيهم رسله، و واتر إليهم أنبياءه، ليستأدوهم ميثاق فطرته، و يذكروهم منسي نعمته، و يحتجوا عليهم بالتبليغ، و يثيروا لهم دفائن العقول، و يروهم آيات المقدرة: من سقف فوقهم مرفوع، و مهاد تحتهم موضوع، و معايش تحييهم، و آجال تفنيهم، و أوصاب تهرمهم، و أحداث تتابع عليهم، و لم يخل الله سبحانه خلقه من نبي مرسل، أو كتاب منزل، أو حجة لازمة أو محجة قائمة، رسل لا يقصر بهم قلة عددهم و لا كثرة المكذبين لهم: من سابق سمي له من بعده، أو غابر عرفه من قبله، على ذلك نسلت القرون، و مضت الدهور، و سلفت الآباء، و خلفت الأبناء، إلى أن بعث الله سبحانه محمدا لإنجاز عدته، و تمام نبوته الخطبة.

أقول: قوله: اجتالتهم أي حملتهم على الجولان إلى كل جانب، و قوله: واتر إليهم، أي أرسل واحدا بعد واحد، و الأوصاب جمع وصب و هو المرض، و الأحداث جمع الحدث و هو النازلة، و قوله نسلت القرون أي مضت، و إنجاز العدة تصديق الوعد، و المراد به الوعد الذي وعده الله سبحانه بإرسال رسوله محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) و بشر به عيسى (عليه السلام) و غيره من الأنبياء (عليهم السلام)، قال تعالى: «و تمت كلمة ربك صدقا و عدلا:» الأنعام - 115.

و في تفسير العياشي، عن عبد الله بن الوليد قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): قال الله تعالى لموسى (عليه السلام): و كتبنا له في الألواح من كل شيء فعلمنا أنه لم يكتب لموسى الشيء كله، و قال تعالى لعيسى: لأبين لكم بعض الذي تختلفون فيه، و قال الله تعالى لمحمد (صلى الله عليه وآله وسلم): و جئنا بك شهيدا على هؤلاء و نزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء.

أقول: و روي في بصائر الدرجات، هذا المعنى عن عبد الله بن الوليد بطريقين، و قوله (عليه السلام) قال الله لموسى «إلخ»، إشارة إلى أن قوله تعالى في الألواح من كل شيء يفسر قوله تعالى في حق التوراة: «و تفصيل كل شيء» إذ لو كان المراد به استيعاب البيان لجميع جهات كل شيء لم يصح قوله: في الألواح من كل شيء فهذا الكلام شاهد على أن المراد من تفصيل كل شيء تفصيله بوجه لا من جميع الجهات فافهم.

بحث فلسفي

مسألة النبوة العامة بالنظر إلى كون النبوة نحو تبليغ للأحكام و قوانين مجعولة مشرعة و هي أمور اعتبارية غير حقيقية، و إن كانت مسألة كلامية غير فلسفية فإن البحث الفلسفي إنما ينال الأشياء من حيث وجوداتها الخارجية و حقائقها العينية و لا يتناول الأمور المجعولة الاعتبارية.

لكنها بالنظر إلى جهة أخرى مسألة فلسفية و بحث حقيقي، و ذلك أن المواد الدينية: من المعارف الأصلية و الأحكام الخلقية و العملية لها ارتباط بالنفس الإنسانية من جهة أنها تثبت فيها علوما راسخة أو أحوالا تؤدي إلى ملكات راسخة، و هذه العلوم و الملكات تكون صورا للنفس الإنسانية تعين طريقها إلى السعادة و الشقاوة، و القرب و البعد من الله سبحانه، فإن الإنسان بواسطة الأعمال الصالحة و الاعتقادات الحقة الصادقة يكتسب لنفسه كمالات لا تتعلق إلا بما هي له عند الله سبحانه من القرب و الزلفى، و الرضوان و الجنان و بواسطة الأعمال الطالحة و العقائد السخيفة الباطلة يكتسب لنفسه صورا لا تتعلق إلا بالدنيا الداثرة و زخارفها الفانية و يؤديها ذلك أن ترد بعد مفارقة الدنيا و انقطاع الاختيار إلى دار البوار و مهاد النار و هذا سير حقيقي.

و على هذا فالمسألة حقيقية و الحجة التي ذكرناها في البيان السابق و استفدناها من الكتاب العزيز حجة برهانية.

توضيح ذلك: أن هذه الصور للنفس الإنسانية الواقعة في طريق الاستكمال، و الإنسان نوع حقيقي بمعنى أنه موجود حقيقي مبدأ لآثار وجودية عينية، و العلل الفياضة للموجودات أعطتها قابلية النيل إلى كمالها الأخير في وجودها بشهادة التجربة و البرهان، و الواجب تعالى تام الإفاضة فيجب أن يكون هناك إفاضة لكل نفس مستعدة بما يلائم استعدادها من الكمال، و يتبدل به قوتها إلى الفعلية، من الكمال الذي يسمى سعادة إن كانت ذات صفات حسنة و ملكات فاضلة معتدلة أو الذي يسمى شقاوة إن كانت ذات رذائل و هيئات ردية.

و إذ كانت هذه الملكات و الصور حاصلة لها من طريق الأفعال الاختيارية المنبعثة عن اعتقاد الصلاح و الفساد، و الخوف و الرجاء، و الرغبة إلى المنافع، و الرهبة من المضار، وجب أن تكون هذه الإفاضة أيضا متعلقه بالدعوة الدينية بالتبشير و الإنذار و التخويف و التطميع لتكون شفاء للمؤمنين فيكملوا به في سعادتهم، و خسارا للظالمين فيكملوا به في شقاوتهم، و الدعوة تحتاج إلى داع يقدم بها و هو النبي المبعوث من عنده تعالى.

فإن قلت: كفى في الدعوة ما يدعو إليه العقل من اتباع الإنسان للحق في الاعتقاد و العمل، و سلوكه طريق الفضيلة و التقوى، فأي حاجة إلى بعث الأنبياء.

قلت: العقل الذي يدعو إلى ذلك، و يأمر به هو العقل العملي الحاكم بالحسن و القبح، دون العقل النظري المدرك لحقائق الأشياء كما مر بيانه سابقا، و العقل العملي يأخذ مقدمات حكمه من الإحساسات الباطنة، و الإحساسات التي هي بالفعل في الإنسان في بادي حاله هي إحساسات القوى الشهوية و الغضبية، و أما القوة الناطقة القدسية فهي بالقوة، و قد مر أن هذا الإحساس الفطري يدعو إلى الاختلاف، فهذه التي بالفعل لا تدع الإنسان يخرج من القوة إلى الفعل كما هو مشهود من حال الإنسان فكل قوم أو فرد فقد التربية الصالحة عاد عما قليل إلى التوحش و البربرية مع وجود العقل فيهم و حكم الفطرة عليهم، فلا غناء عن تأييد إلهي بنبوة تؤيد العقل.

بحث اجتماعي

فإن قلت: هب أن العقل لا يستقل بالعمل في كل فرد أو في كل قوم في جميع التقادير و لكن الطبيعة تميل دائما إلى ما فيه صلاحها و الاجتماع التابع لها مثلها يهدي إلى صلاح أفراده فهو يستقر بالآخرة على هيئة صالحة فيها سعادة أفراد المجتمعين و هو الأصل المعروف بتبعية المحيط فالتفاعل بين الجهات المتضادة يؤدي بالآخرة إلى اجتماع صالح مناسب لمحيط الحياة الإنسانية جالب لسعادة النوع المجتمع الأفراد، و يشهد به ما نشاهده و يؤيده التاريخ أن الاجتماعات لا تزال تميل إلى التكامل و تتمنى الصلاح و تتوجه إلى السعادة اللذيذة عند الإنسان، فمنها ما بلغ مبتغاه و أمنيته كما في بعض الأمم مثل سويسرة، و منها ما هو في الطريق و لما يتم له شرائط الكمال و هي قريبة أو بعيدة كما في سائر الدول.

قلت: تمايل الطبيعة إلى كمالها و سعادتها مما لا يسع أحدا إنكاره، و الاجتماع المنتهي إلى الطبيعة حاله حال الطبيعة في التوجه إلى الكمال لكن الذي ينبغي الإمعان فيه أن هذا التمايل و التوجه لا يستوجب فعلية الكمال و السعادة الحقيقية، لما ذكرنا من فعلية الكمال الشهوي و الغضبي في الإنسان و كون مبادىء السعادة الحقيقية فيه بالقوة، و الشاهد عليه عين ما استشهد به في الاعتراض من كون الاجتماعات المدنية المنقرضة و الحاضرة متوجهة إلى الكمال، و نيل بعضها إلى المدنية الفاضلة السعيدة، و قرب البعض الآخر أو بعده، فإن الذي نجده عند هؤلاء من الكمال و السعادة هو الكمال الجسمي و ليس الكمال الجسمي هو كمال الإنسان، فإن الإنسان ليس هو الجسم بل هو مركب من جسم و روح، مؤلف من جهتين مادية و معنوية له حياة في البدن و حياة بعد مفارقته من غير فناء و زوال، يحتاج إلى كمال و سعادة تستند إليها في حياته الآخرة، فليس من الصحيح أن يعد كماله الجسمي الموضوع على أساس الحياة الطبيعية كمالا له و سعادة بالنسبة إليه، و حقيقته هذه الحقيقة.

فتبين أن الاجتماع بحسب التجربة إنما يتوجه بالفعل إلى فعلية الكمال الجسماني دون فعلية الكمال الإنساني، و إن كان في قصدها هداية الإنسان إلى كمال حقيقته لا كمال جسمه الذي في تقوية جانبه هلاك الإنسانية و انحلال تركيبه، و ضلاله عن صراطه المستقيم، فهذا الكمال لا يتم له إلا بتأييد من النبوة، و الهداية الإلهية.

يتبع...

العودة إلى القائمة

التالي