الميزان في تفسير القرآن

سورة مريم

51 - 57

وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولا نَّبِيًّا (51) وَنَادَيْنَاهُ مِن جَانِبِ الطُّورِ الأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا (52) وَوَهَبْنَا لَهُ مِن رَّحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا (53) وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولا نَّبِيًّا (54) وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِندَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا (55) وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَّبِيًّا (56) وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا (57)

بيان

ذكر جمع آخرين من الأنبياء و شيء من موهبة الرحمة التي خصهم الله بها، و هم موسى و هارون و إسماعيل و إدريس (عليهما السلام).

قوله تعالى: «و اذكر في الكتاب موسى إنه كان مخلصا و كان رسولا نبيا» قد تقدم معنى المخلص بفتح اللام و أنه الذي أخلصه الله لنفسه فلا نصيب لغيره تعالى فيه لا في نفسه و لا في عمله، و هو أعلى مقامات العبودية.

و تقدم أيضا الفرق بين الرسول و النبي.

قوله تعالى: «و ناديناه من جانب الطور الأيمن و قربناه نجيا» الأيمن: صفة لجانب أي الجانب الأيمن من الطور، و في المجمع،: النجي بمعنى المناجي كالجليس و الضجيع.

و ظاهر أن تقريبه (عليه السلام) كان تقريبا معنويا و إن كانت هذه الموهبة الإلهية في مكان و هو الطور ففيه كان التكليم، و مثاله من الحس أن ينادي السيد العزيز عبده الذليل فيقربه من مجلسه حتى يجعله نجيا يناجيه ففيه نيل ما لا سبيل لغيره إليه.

قوله تعالى: «و وهبنا له من رحمتنا أخاه هارون نبيا» إشارة إلى إجابة ما دعا به موسى عند ما أوحى إليه لأول مرة في الطور إذ قال: «و اجعل لي وزيرا من أهلي هارون أخي اشدد به أزرى و أشركه في أمري»: طه: 32.

قوله تعالى: «و اذكر في الكتاب إسماعيل إنه كان صادق الوعد» إلى آخر الآيتين.

اختلفوا في «إسماعيل» هذا فقال الجمهور هو إسماعيل بن إبراهيم خليل الرحمن، و إنما ذكر وحده و لم يذكر مع إسحاق و يعقوب اعتناء بشأنه، و قيل: هو غيره، و هو إسماعيل بن حزقيل من أنبياء بني إسرائيل، و لو كان هو ابن إبراهيم لذكر مع إسحاق و يعقوب.

و يضعف ما وجه به قول الجمهور: أنه استقل بالذكر اعتناء بشأنه، أنه لو كان كذلك لكان الأنسب ذكره بعد إبراهيم و قبل موسى (عليه السلام) لا بعد موسى.

قوله تعالى: «و كان يأمر أهله بالصلوة و الزكاة و كان عند ربه مرضيا» المراد بأهله خاصته من عترته و عشيرته و قومه كما هو ظاهر اللفظ، و قيل: المراد بأهله أمته و هو قول بلا دليل.

و المراد بكونه عند ربه مرضيا كون نفسه مرضية دون عمله كما ربما فسره به بعضهم فإن إطلاق اللفظ لا يلائم تقييد الرضا بالعمل.

قوله تعالى: «و اذكر في الكتاب إدريس إنه كان صديقا نبيا» إلى آخر الآيتين.

قالوا: إن إدريس النبي كان اسمه أخنوخ و هو من أجداد نوح (عليه السلام) على ما ذكر في سفر التكوين من التوراة، و إنما اشتهر بإدريس لكثرة اشتغاله بالدرس.

و قوله: «و رفعناه مكانا عليا» من الممكن أن يستفاد من سياق القصص المسرودة في السورة و هي تعد مواهب النبوة و الولاية و هي مقامات إلهية معنوية أن المراد بالمكان العلي الذي رفع إليه درجة من درجات القرب إذ لا مزية في الارتفاع المادي و الصعود إلى أقاصي الجو البعيدة أينما كان.

و قيل: إن المراد بذلك - كما ورد به الحديث - أن الله رفعه إلى بعض السماوات و قبضه هناك، و فيه إراءة آية خارقة و قدرة إلهية بالغة و كفى بها مزية.

قصة إسماعيل صادق الوعد

لم ترد قصة إسماعيل بن حزقيل النبي في القرآن إلا في هاتين الآيتين على أحد التفسيرين و قد أثنى الله سبحانه عليه بجميل الثناء فعده صادق الوعد و آمرا بالمعروف و مرضيا عند ربه، و ذكر أنه كان رسولا نبيا.

و أما الحديث ففي علل الشرائع، بإسناده عن ابن أبي عمير و محمد بن سنان عمن ذكره عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن إسماعيل الذي قال الله عز و جل في كتابه: «و اذكر في الكتاب إسماعيل إنه كان صادق الوعد - و كان رسولا نبيا» لم يكن إسماعيل بن إبراهيم بل كان نبيا من الأنبياء بعثه الله عز و جل إلى قومه فأخذوه و سلخوا فروة رأسه و وجهه فأتاه ملك فقال إن الله جل جلاله بعثني إليك فمرني بما شئت فقال: لي أسوة بما يصنع بالأنبياء (عليهم السلام).

أقول: و روى هذا المعنى أيضا بإسناده عن أبي بصير عنه (عليه السلام) و في آخره: يكون لي أسوة بالحسين (عليه السلام).

و في العيون، بإسناده إلى سليمان الجعفري عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام) قال: أ تدري لم سمي إسماعيل صادق الوعد؟ قال: قلت: لا أدري. قال: وعد رجلا فجلس له حولا ينتظره:. أقول: و روى هذا المعنى في الكافي، عن ابن أبي عمير عن منصور بن حازم عن أبي عبد الله (عليه السلام)، و رواه أيضا في المجمع، مرسلا عنه (عليه السلام).

و في تفسير القمي،: في قوله «و اذكر في الكتاب إسماعيل إنه كان صادق الوعد» قال: وعد وعدا فانتظر صاحبه سنة، و هو إسماعيل بن حزقيل.

أقول: وعده (عليه السلام) و هو أن يثبت في مكانه في انتظار صاحبه كان مطلقا لم يقيده بساعة أو يوم و نحوه فألزمه مقام الصدق أن يفي به بإطلاقه و يصبر نفسه في المكان الذي وعد صاحبه أن يقيم فيه حتى يرجع إليه.

و صفة الوفاء كسائر الصفات النفسانية من الحب و الإرادة و العزم و الإيمان و الثقة و التسليم ذات مراتب مختلفة باختلاف العلم و اليقين فكما أن من الإيمان ما يجتمع مع أي خطيئة و إثم و هو أنزل مراتبه و لا يزال ينمو و يصفو حتى يخلص من كل شرك خفي فلا يتعلق القلب بشيء غير الله و لو بالتفات إلى من دونه و هو أعلى مراتبه كذلك الوفاء بالوعد ذو مراتب فمن مراتبه في المقال مثلا إقامة ساعة أو ساعتين حتى تعرض حاجة أخرى توجب الانصراف إليها و هو الذي يصدق عليه الوفاء عرفا، و أعلى منه مرتبة الإقامة بالمكان حتى يواس من رجوع الصديق إليه عادة بمجيء الليل و نحوه فيقيد به إطلاق الوعد، و أعلى منه مرتبة الأخذ بإطلاق القول و الإقامة حتى يرجع و إن طال الزمان فالنفوس القوية التي تراقب قولها و فعلها لا تلقي من القول إلا ما في وسعها أن تصدقه بالفعل ثم إذا لفظت لم يصرفها عن إتمام الكلمة و إنفاذ العزيمة أي صارف.

و في الرواية: أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وعد بعض أصحابه بمكة أن ينتظره عند الكعبة حتى يرجع إليه فمضى الرجل لشأنه و نسي الأمر فبقي (صلى الله عليه وآله وسلم) ثلاثة أيام هناك ينتظره فاطلع بعض الناس عليه فأخبر الرجل بذلك فجاء و اعتذر إليه و هذا مقام الصديقين لا يقولون إلا ما يفعلون.

قصة إدريس النبي (عليه السلام)

1 - لم يذكر (عليه السلام) في القرآن إلا في الآيتين من سورة مريم: «و اذكر في الكتاب إدريس إنه كان صديقا نبيا و رفعناه مكانا عليا»: الآية - 56 - 57 و في قوله: «و إسماعيل و إدريس و ذا الكفل كل من الصابرين و أدخلناهم في رحمتنا إنهم من الصالحين»: الأنبياء: 85 86.

و في الآيات ثناء منه تعالى عليه جميل فقد عده نبيا و صديقا و من الصابرين و من الصالحين، و أخبر أنه رفعه مكانا عليا.

2 - و من الروايات الواردة في قصته ما عن كتاب كمال الدين و تمام النعمة، بإسناده عن إبراهيم بن أبي البلاد عن أبيه عن الباقر (عليه السلام): و الحديث طويل لخصناه أنه كان بدء نبوة إدريس (عليه السلام) أنه كان في زمانه ملك جبار، و ركب ذات يوم في بعض النزهة فمر بأرض خضراء نضرة أعجبته فأحب أن يمتلكها و كانت الأرض لعبد مؤمن فأمر بإحضاره و ساومه فيها ليشتريها فلم يبعها و لم يرض به فرجع الملك إلى البلدة و هو مغموم متحير في أمره فاستشار امرأة له كان يستشيرها في هامة الأمور فأشارت عليه أن يقيم عليه شهودا أنه خرج عن دين الملك فيقتله و يملك أرضه ففعل ما أشارت إليه و غصب الأرض. فأوحى الله إلى إدريس أن يأتي الملك و يقول له عنه: أ ما رضيت أن قتلت عبدي المؤمن ظلما حتى استخلصت أرضه خالصة لك و أحوجت عياله من بعده و أجعتهم؟ أما و عزتي لأنتقمن له منك في الآجل و لأسلبن ملكك في العاجل، و لأخربن مدينتك و لأذلن عزك و لأطعمن الكلاب لحم امرأتك فقد غرك يا مبتلى حلمي عنك. فأتاه إدريس برسالة الله و بلغه ذلك في ملإ من أصحابه فأخرجه الملك من مجلسه ثم أرسل إليه بإشارة من امرأته قوما يقتلونه، فانتبه لذلك بعض أصحاب إدريس و أشاروا عليه بالخروج و الهجرة فخرج منها ليومه و معه بعض أصحابه ثم ناجى ربه و شكى إليه ما لقيه من الملك في رسالته إليه فأوحى إليه بالخروج من القرية، و أنه سينفذ في الملك أمره و يصدق فيه قوله، ثم سأل أن لا تمطر السماء على القرية و ما حولها حتى يسأل ذلك فأجيب إليه. فأخبر إدريس بذلك أصحابه من المؤمنين و أمرهم بالخروج منها فخرجوا و تفرقوا في البلاد و كانوا عشرين رجلا و شاع خبر وحيه و خروجه بين الناس، و خرج هو متنحيا إلى كهف في جبل شاهق يعبد الله فيه و يصوم النهار و يأتيه ملك بطعام يفطر به عند كل مساء. و أنفذ الله في الملك و امرأته و مدينته ما أوحاه إلى إدريس و ظهر في المدينة جبار آخر عاص، و أمسكت السماء عنهم أمطارها عشرين سنة حتى جهدوا و اشتدت حالهم فلما بلغ بهم الجهد ذكر بعضهم لبعض أن الذي لقوه من الجهد و المشقة إنما هو لدعاء إدريس عليهم أن لا يمطروا حتى يسألوه و خروجه من بينهم و هم لا يعلمون أين هو؟ فالرأي أن يرجعوا و يتوبوا إلى الله و يسألوه المطر فهو أرحم بهم منه فاجتمعوا على الدعاء و التضرع. فأوحى الله إلى إدريس أن القوم عجوا إلي بالتوبة و الاستغفار و البكاء و التضرع و قد رحمتهم و ما يمنعني من أمطارهم إلا مناظرتك فيما سألتني أن لا أمطر السماء عليهم حتى تسألني فاسألني حتى أغيثهم، قال إدريس: اللهم إني لا أسألك. فأوحى الله إلى الملك الذي كان يأتيه بالطعام أن يمسك عنه فأمسك عنه ثلاثة أيام حتى بلغ به الجوع: فنادى اللهم حبست عني رزقي من قبل أن تقبض روحي فأوحى الله إليه: يا إدريس جزعت أن حبست عنك طعامك ثلاثة أيام و لم تجزع من جوع أهل قريتك و جهدهم منذ عشرين سنة ثم سألتك أن تسألني أن أمطر عليهم فبخلت و لم تسأل فأدبتك بالجوع فاهبط من موضعك و اطلب المعاش لنفسك فقد وكلتك في طلبه إلى حيلتك. فهبط إدريس إلى قرية هناك و نظر إلى بيت يصعد منه دخان فهجم عليه و إذا عجوز كبيرة ترفق قرصتين لها على مقلاة فسألها أن تطعمه فقد بلغ به جهد الجوع فقالت: يا عبد الله ما تركت لنا دعوة إدريس فضلا نطعمه أحدا و حلفت أنها لا تملك غيره شيئا فاطلب المعاش من غير أهل هذه القرية، فقال لها: أطعميني ما أمسك به روحي و تقوم به رجلي حتى أطلب، قالت: إنهما قرصتان واحدة لي و الأخرى لابني فإن أطعمتك قوتي مت و إن أطعمتك قوت ابني مات و ليس هاهنا فضل، قال: إن ابنك صغير يجزيه نصف قرصة فأطعمي كلا منا نصفا يكون لنا بلغة فرضيت و فعلت. فلما رأى ابنها إدريس و هو يأكل من قرصته اضطرب حتى مات، قالت أمه: يا عبد الله قتلت ابني جزعا على قوته فقال: لا تجزعي فأنا أحييه لك الساعة بإذن الله و أخذ بعضدي الصبي و قال: أيتها الروح الخارجة عن بدنه بأمر الله ارجعي إلى بدنه بإذن الله و أنا إدريس النبي، فرجعت روح الغلام إليه. فلما سمعت أمه كلام إدريس و قوله: أنا إدريس و نظرت إلى ابنها حيا قالت: أشهد أنك إدريس النبي و خرجت تنادي بأعلى صوتها في القرية: أبشروا بالفرج فقد دخل إدريس في قريتكم، فمضى إدريس حتى جلس على موضع مدينة الجبار الأول و قد تبدلت تلا من تراب فاجتمع إليه أناس من أهل قريته و استرحموه و سألوه أن يدعو لهم فيمطروا. قال: لا، حتى يأتيني جباركم هذا و جميع أهل قريتكم مشاة حفاة فيسألوني ذلك. فبلغ ذلك الجبار فبعث إلى إدريس أربعين رجلا و أمرهم أن يأتوا به إليه، فلما جاءوه و كلفوه الذهاب معهم إليه، دعا عليهم فماتوا عن آخرهم، ثم أرسل خمسمائة رجل فلما أتوه كلفوه الذهاب و استرحموه فأراهم مصارع أصحابهم و قال: ما أنا بذاهب إليه و لا سائل حتى يأتيني هو و جميع أهل القرية مشاة حفاة و يسألوني الدعاء للمطر. فانطلقوا إليه و أخبروه بما قال و سألوه أن يمضي إليه هو و جميع أهل القرية مشاة حفاة و يسألوه أن يسأل الله أن تمطر السماء فأتوه حتى وقفوا بين يديه خاضعين متذللين و سألوه أن يسأل الله أن تمطر السماء عليهم، فعند ذلك دعا إدريس أن تمطر السماء عليهم فأظلتهم سحابة من السماء و أرعدت و أبرقت و هطلت عليهم من ساعتهم حتى ظنوا أنه الغرق فما رجعوا إلى منازلهم حتى أهمتهم أنفسهم من الماء.

و في الكافي، بإسناده عن عبد الله بن أبان عن أبي عبد الله (عليه السلام): في حديث يذكر فيه مسجد السهلة: أ ما علمت أنه موضع بيت إدريس النبي الذي كان يخيط فيه.

أقول: و قد شاع بين أهل السير و الآثار أنه (عليه السلام) أول من خط بالقلم و أول من خاط.

و في تفسير القمي، قال: و سمي إدريس لكثرة دراسته الكتب.

أقول: ورد في بعض الروايات: في معنى قوله تعالى في إدريس (عليه السلام): «و رفعناه مكانا عليا» أن الله غضب على ملك من الملائكة فقطع جناحه و ألقاه في جزيرة من جزائر البحر فبقي هناك ما شاء الله، فلما بعث الله إدريس جاءه ذلك الملك و سأله أن يدعو الله أن يرضى عنه و يرد إليه جناحه، فدعا له إدريس فرد الله جناحه إليه و رضي عنه. قال الملك لإدريس: أ لك حاجة؟ قال: نعم أحب أن ترفعني إلى السماء حتى أنظر إلى ملك الموت فلا عيش لي مع ذكره، فأخذه الملك على جناحه حتى انتهى به إلى السماء الرابعة فإذا هو بملك الموت يحرك رأسه تعجبا، فسلم عليه إدريس و قال له: ما لك تحرك رأسك؟ قال: إن رب العزة أمرني أن أقبض روحك بين السماء الرابعة و الخامسة. فقلت: يا رب كيف يكون هذا و بيني و بينه أربع سماوات و غلظ كل سماء مسيرة خمسمائة عام و بين كل سماءين مسيرة خمسمائة عام؟ ثم قبض روحه بين السماء الرابعة و الخامسة و هو قوله تعالى: «و رفعناه مكانا عليا»:. روى الحديث علي بن إبراهيم القمي في تفسيره، عن أبيه عن ابن أبي عمير عمن حدثه عن أبي عبد الله (عليه السلام):، و روى ما في معناه في الكافي، عن علي بن إبراهيم عن أبيه عن عمرو بن عثمان عن مفضل بن صالح عن جابر عن أبي جعفر (عليه السلام) عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).

و الروايتان على ما بهما و خاصة في الثانية منهما من ضعف السند لا معول عليهما لمخالفتهما ظاهر الكتاب لنصه على عصمة الملائكة و نزاهتهم عن الذنب و الخطيئة.

و روى الثعلبي في العرائس، عن ابن عباس و غيره ما ملخصه: أن إدريس سار ذات يوم فأصابه وهج الشمس فقال: إني مشيت في الشمس يوما فتأذيت فكيف بمن يحملها مسيرة خمسمائة عام في يوم واحد! اللهم خفف عنه ثقلها و احمل عنه حرها، فاستجاب الله له فأحس الملك الذي يحملها بذلك فسأل الله في ذلك فأخبره بما كان من دعاء إدريس و استجابته فسأله تعالى أن يجمع بينه و بين إدريس و يجعل بينهما خلة فأذن له. فكان إدريس يسأله و كان مما سأله: أنك أخبرت أنك أكرم الملائكة على ملك الموت و أمكنهم عنده فاشفع لي إليه ليؤخر أجلي حتى أزداد شكرا و عبادة فقال الملك: لا يؤخر الله نفسا إذا جاء أجلها. قال: نعم و لكنه أطيب لنفسي. قال الملك أنا مكلمه لك، و ما كان يستطيع أن يفعله لأحد من بني آدم فهو فاعله لك. ثم حمله الملك على جناحه و رفعه إلى السماء فوضعه عند مطلع الشمس ثم أتى ملك الموت و ذكر له حاجة إدريس و شفع له فقال ملك الموت: ليس ذلك إلي و لكن إن أحببت أعلمته أجله. قال: نعم فنظر في ديوانه و أخبره باسمه و قال: ما أراه يموت أبدا. فإنه أجده يموت عند مطلع الشمس! قال: فإني أتيتك و قد تركته هناك. قال له: انطلق فلا أراك تجده إلا ميتا فوالله ما بقي من أجله شيء فرجع الملك إليه فوجده ميتا.

و رواه في الدر المنثور، عن ابن أبي شيبة و ابن أبي حاتم عن ابن عباس عن كعب: إلا أن فيه أن النازل على إدريس الملك الذي كان يرفع إليه عمله و قد كان يرفع له من العمل ما يعدل عمل أهل الأرض في زمانه فأعجبه ذلك فسأل الله أن ينزل إليه فأذن له فنزل إليه و صحبه «إلخ» و روى ابن أبي حاتم بطريق آخر عن ابن عباس هذا الحديث و فيه: أن إدريس مات بين جناحي الملك.

و في الدر المنثور، أخرج ابن المنذر عن عمر مولى غفرة يرفعه إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): إن إدريس كان يرفع له وحده من العمل ما يعدل عمل أهل الأرض كلهم فأعجب ذلك ملك الموت فاستأذن الله في النزول إلى الأرض و صحبته فأذن له فنزل إليه و صحبه فكانا يسيحان في الأرض و يعبدان الله فأعجب إدريس ما رآه من عبادة صاحبه من غير كسل و لا فتور فسأله عن ذلك و أحفى في السؤال حتى عرفه ملك الموت نفسه و ذكر له قصة نزوله و صحبته. فلما عرفه إدريس سأله ثلاث حوائج له: أن يقبض روحه ساعة ثم يردها إليه فاستأذن الله و فعل، و أن يرفعه إلى السماء و يريه النار فاستأذن و فعل، و أن يريه الجنة فاستأذن و فعل فدخل الجنة و أكل من ثمارها و شرب من مائها فقال له ملك الموت: اخرج يا نبي الله فقد أصبت حاجتك، فامتنع من الخروج و تعلق بشجرة هناك، و خاصم ملك الموت قائلا: قال الله: «كل نفس ذائقة الموت» و قد ذقته، و قال: «و إن منكم إلا واردها» و قد وردت النار، و قال: «و ما هم منها بمخرجين» و لست أخرج من الجنة بعد دخولها فأوحى الله إلى ملك الموت خصمك عبدي فاتركه و لا تتعرض له فبقي في الجنة.

و رواه في العرائس، عن وهب و في آخره: فهو حي هناك فتارة يعبد الله في السماء الرابعة و تارة يتنعم في الجنة.

و في مستدرك الحاكم، عن سمرة: كان إدريس أبيض طويلا ضخم عريض الصدر قليل شعر الجسد كثير شعر الرأس، و كانت إحدى عينيه أعظم من الأخرى، و كانت في صدره نكتة بيضاء من غير برص فلما رأى الله من أهل الأرض ما رأى من جورهم و اعتدائهم في أمر الله، رفعه الله إلى السماء السادسة فهو حيث يقول: «و رفعناه مكانا عليا».

أقول: و لا يرتاب الناقد البصير في أن هذه الروايات إسرائيليات لعبت بها أيدي الوضع، و يدفعها الموازين العلمية و الأصول المسلمة من الدين.

3 - و يسمى (عليه السلام) بهرمس قال القفطي في كتاب إخبار العلماء بأخبار الحكماء، في ترجمة إدريس: اختلف الحكماء في مولده و منشئه و عمن أخذ العلم قبل النبوة فقالت فرقة: ولد بمصر و سموه هرمس الهرامسة، و مولده بمنف، و قالوا: هو باليونانية إرميس و عرب بهرمس، و معنى إرميس عطارد، و قال آخرون: اسمه باليونانية طرميس، و هو عند العبرانيين خنوخ و عرب أخنوخ، و سماه الله عز و جل في كتابه العربي المبين إدريس.

و قال هؤلاء: إن معلمه اسمه الغوثاذيمون و قيل: إغثاذيمون المصري، و لم يذكروا من كان هذا الرجل؟ إلا أنهم قالوا: إنه أحد الأنبياء اليونانيين و المصريين، و سموه أيضا أورين الثاني و إدريس عندهم أورين الثالث، و تفسير غوثاذيمون السعيد الجد، و قالوا: خرج هرمس من مصر و جاب الأرض كلها ثم عاد إليها و رفعه الله إليه بها، و ذلك بعد اثنين و ثمانين سنة من عمره.

و قالت فرقة أخرى: إن إدريس ولد ببابل و نشأ بها و أنه أخذ في أول عمره بعلم شيث بن آدم و هو جد جد أبيه لأن إدريس ابن يارد بن مهلائيل بن قينان بن أنوش بن شيث.

قال الشهرستاني: إن إغثاذيمون هو شيث.

و لما كبر إدريس آتاه الله النبوة فنهى المفسدين من بني آدم عن مخالفتهم شريعة آدم و شيث فأطاعه أقلهم و خالفه جلهم فنوى الرحلة عنهم و أمر من أطاعه منهم بذلك فثقل عليهم الرحيل من أوطانهم فقالوا له: و أين نجد إذا رحلنا مثل بابل؟ و بابل بالسريانية النهر و كأنهم عنوا بذلك دجلة و الفرات، فقال: إذا هاجرنا لله رزقنا غيره.

فخرج و خرجوا و ساروا إلى أن وافوا هذا الإقليم الذي سمي بابليون فرأوا النيل و رأوا واديا خاليا من ساكن فوقف إدريس على النيل و سبح الله و قال لجماعته: بابليون، و اختلف في تفسيره فقيل: نهر كبير، و قيل: نهر كنهركم، و قيل: نهر مبارك، و قيل: إن يون في السريانية مثل أفعل التي للمبالغة في كلام العرب و كان معناه نهر أكبر فسمي الإقليم عند جميع الأمم بابليون، و سائر فرق الأمم على ذلك إلا العرب فإنهم يسمونه إقليم مصر نسبة إلى مصر بن حام النازل به بعد الطوفان و الله أعلم بكل ذلك.

و أقام إدريس و من معه بمصر يدعو الخلائق إلى الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر و طاعة الله عز و جل، و تكلم الناس في أيامه باثنين و سبعين لسانا، و علمه الله عز و جل منطقهم ليعلم كل فرقة منهم بلسانها، و رسم لهم تمدين المدن، و جمع له طالبي العلم بكل مدينة فعرفهم السياسية المدنية، و قرر لهم قواعدها فبنت كل فرقة من الأمم مدنا في أرضها، و كانت عدة المدن التي أنشئت في زمانه مائة مدينة و ثماني و ثمانين مدينة أصغرها الرها و علمهم العلوم.

و هو أول من استخرج الحكمة و علم النجوم فإن الله عز و جل أفهمه سر الفلك و تركيبه و نقط اجتماع الكواكب فيه و أفهمه عدد السنين و الحساب و لو لا ذلك لم تصل الخواطر باستقرائها إلى ذلك.

و أقام للأمم سننا في كل إقليم تليق كل سنة بأهلها، و قسم الأرض أربعة أرباع و جعل على كل ربع ملكا يسوس أمر المعمور من ذلك الربع، و تقدم إلى كل ملك بأن يلزم أهل كل ربع بشريعة سأذكر بعضها، و أسماء الأربعة الملوك الذين ملكوا: الأول إيلاوس و تفسيره الرحيم، و الثاني أوس، و الثالث سقلبيوس، و الرابع أوسآمون، و قيل: إيلاوسآمون، و قيل: يسيلوخس و هو آمون الملك انتهى موضع الحاجة.

و هذه أحاديث و أنباء تنتهي إلى ما قبل التاريخ لا يعول عليها ذاك التعويل غير أن بقاء ذكره الحي بين الفلاسفة و أهل العلم جيلا بعد جيل و تعظيمهم له و احترامهم لساحته و إنهاءهم أصول العلم إليه يكشف عن أنه من أقدم أئمة العلم الذين ساقوا العالم الإنساني إلى ساحة التفكر الاستدلالي و الإمعان في البحث عن المعارف الإلهية أو هو أولهم (عليهم السلام).

العودة إلى القائمة

التالي