الميزان في تفسير القرآن

سورة مريم

16 - 40

تابع
وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا (16) فَاتَّخَذَتْ مِن دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا (17) قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَن مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيًّا (18) قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلامًا زَكِيًّا (19) قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (20) قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِّنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَّقْضِيًّا (21) فَحَمَلَتْهُ فَانتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا (22) فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنتُ نَسْيًا مَّنسِيًّا (23) فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَا أَلاَّ تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (24) وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا (25) فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا (26) فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا (27) يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا (28) فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا (29) قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (30) وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا (31) وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا (32) وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (33) ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ (34) مَا كَانَ لِلَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ (35) وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ (36) فَاخْتَلَفَ الأَحْزَابُ مِن بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِن مَّشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ (37) أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا لَكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلالٍ مُّبِينٍ (38) وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (39) إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ (40)

قوله تعالى: «قالت إني يكون لي غلام و لم يمسسني بشر و لم أك بغيا» مس البشر بقرينة مقابلته للبغي و هو الزنا كناية عن النكاح و هو في نفسه أعم و لذا اكتفى في القصة من سورة آل عمران بقوله: «و لم يمسسني بشر» و الاستفهام للتعجب أي كيف يكون لي ولد و لم يخالطني قبل هذا الحين رجل لا من طريق الحلال بالنكاح و لا من طريق الحرام بالزنا.

و السياق يشهد أنها فهمت من قوله: «لأهب لك غلاما» إلخ، إنه سيهبه حالا و لذا قالت: «و لم يمسسني بشر و لم أك بغيا» فنفت النكاح و الزنا في الماضي.

قوله تعالى: «قال كذلك قال ربك هو علي هين» إلخ، أي قال الروح الأمر كذلك أي كما وصفته لك ثم قال: «قال ربك هو علي هين»، و قد تقدم في قصة زكريا و يحيى (عليهما السلام) توضيح ما للجملتين.

و قوله: «و لنجعله آية للناس و رحمة منا» ذكر بعض ما هو الغرض من خلق المسيح على هذا النهج الخارق، و هو معطوف على مقدر أي خلقناه بنفخ الروح من غير أب لكذا و كذا و لنجعله آية للناس بخلقته و رحمة منا برسالته و الآيات الجارية على يده و حذف بعض الغرض و عطف بعضه المذكور عليه كثير في القرآن كقوله تعالى: «و ليكون من الموقنين»: الأنعام: 75، و في هذه الصنعة إيهام أن الأغراض الإلهية أعظم من أن يحيط بها فهم أو يفي بتمامها لفظ.

و قوله: «و كان أمرا مقضيا» إشارة إلى تحتم القضاء في أمر هذا الغلام الزكي فلا يرد بإباء أو دعاء.

قوله تعالى: «فحملته فانتبذت به مكانا قصيا» القصي البعيد أي حملت بالولد فانفرد و اعتزلت به مكانا بعيدا من أهله.

قوله تعالى: «فأجاءها المخاض إلى جذع النخلة» إلى آخر الآية، الإجاءة إفعال من جاء يقال: أجاءه و جاء به بمعنى و هو في الآية كناية عن الدفع و الإلجاء، و المخاض و الطلق وجع الولادة، و جذع النخلة ساقها، و النسي بفتح النون و كسرها كالوتر و الوتر هو الشيء الحقير الذي من شأنه أن ينسى، و المعنى - أنها لما اعتزلت من قومها في مكان بعيد منهم - دفعها و ألجأها الطلق إلى جذع نخلة كان هناك لوضع حملها - و التعبير بجذع النخلة دون النخلة مشعر بكونها يابسة غير مخضرة - و قالت استحياء من الناس يا ليتني مت قبل هذا و كنت نسيا و شيئا لا يعبأ به منسيا لا يذكر فلم يقع فيه الناس كما سيقع الناس في.

قوله تعالى: «فناداها من تحتها ألا تحزني» إلى آخر الآيتين ظاهر السياق أن ضمير الفاعل في «ناداها» لعيسى (عليه السلام) لا للروح السابق الذكر، و يؤيده تقييده بقوله: «من تحتها» فإن هذا القيد أنسب لحال المولود مع والدته حين الوضع منه لحال الملك المنادي مع من يناديه، و يؤيده أيضا احتفافه بالضمائر الراجعة إلى عيسى (عليه السلام).

و قيل: الضمير للروح و أصلح كون الروح تحتها بأنها كانت حين الوضع في أكمة و كان الروح واقفا تحت الأكمة فناداها من تحتها، و لا دليل على شيء من ذلك من جهة اللفظ.

و لا يبعد أن يستفاد من ترتب قوله: «فناداها» على قوله: «قالت يا ليتني» إلخ، أنها إنما قالت هذه الكلمة حين الوضع أو بعده فعقبها (عليه السلام) بقوله: لا تخزني، إلخ.

و قوله: «ألا تحزني» تسلية لها لما أصابها من الحزن و الغم الشديد فإنه لا مصيبة هي أمر و أشق على المرأة الزاهدة المتنسكة و خاصة إذا كانت عذراء بتولا من أن تتهم في عرضها و خاصة إذا كانت من بيت معروف بالعفة و النزاهة في حاضر حاله و سابق عهده و خاصة إذا كانت تهمة لا سبيل لها إلى الدفاع عن نفسها و كانت الحجة للخصم عليها، و لذا أشار أن لا تتكلم مع أحد و تكفل هو الدفاع عنها و تلك حجة لا يدفعها دافع.

و قوله: «قد جعل ربك تحتك سريا» السري جدول الماء، و السري هو الشريف الرفيع، و المعنى الأول هو الأنسب للسياق، و من القرينة عليه قوله: بعد: «فكلي و اشربي» كما لا يخفى.

و قيل: المراد هو المعنى الثاني و مصداقه عيسى (عليه السلام)، و قد عرفت أن السياق لا يساعد عليه، و على أي تقدير الجملة إلى آخر كلامه تطييب لنفس مريم (عليها السلام).

و قوله: «و هزي إليك بجذع النخلة تساقط عليك رطبا جنيا» الهز هو التحريك الشديد، و نقل عن الفراء أن العرب تقول: هزه و هز به، و المساقطة هي الإسقاط، و ضمير «تساقط» للنخلة، و نسبة الهز إلى الجذع و المساقطة إلى النخلة لا تخلو من إشعار بأن النخلة كانت يابسة و إنما اخضرت و أورقت و أثمرت رطبا جنيا لساعتها، و الرطب هو نضيج البسر، و الجني هو المجني و ذكر في القاموس - على ما نقل - أن الجني إنما يقال لما جني من ساعته.

قوله تعالى: «فكلي و اشربي و قري عينا» قرار العين كناية عن المسرة يقال: أقر الله عليك أي سرك، و المعنى: فكلي من الرطب الجني الذي تسقط و اشربي من السري الذي تحتك و كوني على مسرة من غير أن تحزني، و التمتع بالأكل و الشرب من أمارات السرور و الابتهاج فإن المصاب في شغل من التمتع بلذيذ الطعام و مريء الشراب و مصيبته شاغلة، و المعنى: فكلي من الرطب الجني و اشربي من السري و كوني على مسرة - مما حباك الله به - من غير أن تحزني، و أما ما تخافين من تهمة الناس و مساءلتهم فالزمي السكوت و لا تكلمي أحدا فأنا أكفيكهم.

قوله تعالى: «فإما ترين من البشر أحدا فقولي إني نذرت للرحمن صوما فلن أكلم اليوم إنسيا» المراد بالصوم صوم الصمت كما يدل عليه التفريع الذي في قوله: «فلن أكلم اليوم إنسيا» و كذا يستفاد من السياق أنه كان أمرا مسنونا في ذلك الوقت و لذا أرسل عذرا إرسال المسلم، و الإنسي منسوب إلى الإنس مقابل الجن و المراد به الفرد من الإنسان.

و قوله: «فإما ترين» إلخ، ما زائدة و الأصل إن ترى بشرا فقولي إلخ، و المعنى: إن ترى بشرا و كلمك أو سألك عن شأن الولد فقولي إلخ، و المراد بالقول التفهيم بالإشارة فربما يسمى التفهيم بالإشارة قولا، و عن الفراء أن العرب تسمي كل ما وصل إلى الإنسان كلاما بأي طريق وصل ما لم يؤكد بالمصدر فإذا أكد لم يكن إلا حقيقة الكلام.

و ليس ببعيد أن يستفاد من قوله: «فقولي إني نذرت للرحمن صوما» بمعونة السياق أنه أمرها أن تنوي الصوم لوقتها و تنذره لله على نفسها فلا يكون إخبارا بما لا حقيقة له.

و قوله: «فإما ترين إلخ، على أي حال متفرع على قوله: «و قري عينا» و المراد لا تكلمي بشرا و لا تجيبي أحدا سألك عن شأني بل ردي الأمر إلي فأنا أكفيك جواب سؤالهم و أدافع خصامهم.

قوله تعالى: «فأتت به قومها تحمله قالوا يا مريم أنى لك هذا لقد جئت شيئا فريا» الضميران في «به» و «تحمله» لعيسى، و الاستفهام إنكاري حملهم عليه ما شاهدوه عن عجيب أمرها مع ما لها من سابقة الزهد و الاحتجاب و كانت ابنة عمران و من آل هارون القديس، و الفري هو العظيم البديع و قيل: هو من الافتراء بمعنى الكذب كناية عن القبيح المنكر و الآية التالية تؤيد المعنى الأول، و معنى الآية واضح.

قوله تعالى: «يا أخت هارون ما كان أبوك امرأ سوء و ما كانت أمك بغيا» ذكر في المجمع، أن في المراد من هارون أربعة أقوال: أحدها: أنه كان رجلا صالحا من بني إسرائيل ينسب إليه كل صالح و على هذا فالمراد بالأخوة الشباهة و معنى «يا أخت هارون» يا شبيهة هارون، و الثاني: أنه كان أخاها لأبيها لا من أمها، و الثالث: أن المراد به هارون أخو موسى الكليم و على هذا فالمراد بالأخوة الانتساب كما يقال: أخو تميم، و الرابع: أنه كان رجلا معروفا بالعهر و الفساد انتهى ملخصا و البغي الزانية، و معنى الآية ظاهر.

قوله تعالى: «فأشارت إليه قالوا كيف نكلم من كان في المهد صبيا» إشارتها إليه إرجاع لهم إليه حتى يجيبهم و يكشف لهم عن حقيقة الأمر، و هو جرى منها على ما أمرها به حينما ولد بقوله: «فإما ترين من البشر أحدا فقولي إني نذرت للرحمن صوما فلن أكلم اليوم إنسيا على ما تقدم البحث عنه.

و المهد السرير الذي يهيأ للصبي فيوضع فيه و ينوم عليه، و قيل: المراد بالمهد في الآية حجر أمه، و قيل المرباة أي المرجحة، و قيل المكان الذي استقر عليه كل ذلك لأنها لم تكن هيئت له مهدا، و الحق أن الآية ظاهرة في ذلك و لا دليل على أنها لم تكن هيئت وقتئذ له مهدا فلعل الناس هجموا عليها و كلموها بعد ما رجعت إلى بيتها و استقرت فيه و هيئت له مهدا أو مرجحة و تسمى أيضا مهدا.

و قد استشكلت الآية بأن الإتيان بلفظة كان مخل بالمعنى فإن ما يقتضيه المقام هو أن يستغربوا تكليم من هو في المهد صبي لا تكليم من كان في المهد صبيا قبل ذلك فكل من يكلمه الناس من رجل أو امرأة كان في المهد صبيا قبل التكليم بحين و لا استغراب فيه.

و أجيب عنه أولا أن الزمان الماضي منه بعيد و منه قريب يلي الحال و إنما يفسد المعنى لو كان مدلول كان في الآية هو الماضي البعيد، و أما لو كان هو القريب المتصل بالحال و هو زمان التكليم فلا محذور فساد فيه.

و الوجه للزمخشري في الكشاف،.

و فيه أنه و إن دفع الإشكال غير أنه لا ينطبق على نحو إنكارهم فإنهم إنما كانوا ينكرون تكليمه و تكلمه من جهة أنه صبي في المهد بالفعل لا من جهة أنه كان قبل زمان يسير صبيا في المهد فيكون «كان زائدا مستدركا.

و أجيب عنه ثانيا: بأن قوله: «كيف نكلم» لحكاية الحال الماضية و «من» موصولة و المعنى كيف نكلم الموصوفين بأنهم في المهد أي لم نكلمهم إلى الآن حتى نكلم هذا.

و هذا الوجه أيضا للزمخشري في الكشاف،.

و فيه أنه و إن استحسنه غير واحد لكنه معنى بعيد عن الفهم!.

و أجيب عنه ثالثا أن كان زائد للتأكيد من غير دلالة على الزمان، و «من كان في المهد» مبتدأ و خبر، و صبيا حال مؤكدة.

و فيه أنه لا دليل عليه، على أنه زيادة موجبة للالتباس من غير ضرورة على أنه قيل إن: «كان» الزائدة تدل على الزمان و إن لم تدل على الحدث.

و أجيب عنه رابعا بأن «من» في الآية شرطية و «كان في المهد صبيا» شرطها و قوله: «كيف نكلم» في محل الجزاء و المعنى من كان في المهد صبيا لا يمكن تكليمه و الماضي في الجملة الشرطية بمعنى المستقبل فلا إشكال.

و فيه أنه تكلف ظاهر.

و يمكن أن يقال: إن «كان» منعزلة عن الدلالة على الزمان لما في الكلام من معنى الشرط و الجزاء فإنه في معنى من كان صبيا لا يمكن تكليمه أو إن كان جيء بها للدلالة على ثبوت الوصف لموصوفه ثبوتا يقضي مضيه عليه و تحققه فيه و لزومه له كقوله تعالى: «قل سبحان ربي هل كنت إلا بشرا رسولا»: الإسراء: 93 أي إن البشرية و الرسالة تحققا في فلا يسعني ما لا يسع البشر الرسول، و قوله تعالى: «و من قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا فلا يسرف في القتل إنه كان منصورا»: الإسراء: 63 أي إن النصرة لازمة له بجعلنا لزوم الوصف الماضي لموصوفه و يكون المعنى كيف نكلم صبيا في المهد ممعنا في صباه من شأنه أنه لبث و سيلبث في صباه برهة من الزمان.

و الله أعلم.

قوله تعالى: «قال إني عبد الله آتاني الكتاب و جعلني نبيا» شروع منه (عليه السلام) في الجواب و لم يتعرض لمشكلة الولادة التي كانوا يكرون بها على مريم (عليها السلام) لأن نطقه على صباه و هو آية معجزة و ما أخبر به من الحقيقة لا يدع ريبا لمرتاب في أمره على أنه سلم في آخر كلامه على نفسه فشهد بذلك على نزاهته و أمنة من كل قذارة و خباثة و من نزاهته طهارة مولده.

و قد بدأ بقوله: «إني عبد الله» اعترافا بالعبودية لله ليبطل به غلو الغالين و تتم الحجة عليهم، كما ختمه بمثل ذلك إذ يقول: «و إن الله ربي و ربكم فاعبدوه».

و في قوله: «آتاني الكتاب» إخبار بإعطاء الكتاب و الظاهر أنه الإنجيل، و في قوله: «و جعلني نبيا» إعلام بنبوته، و قد تقدم في مباحث النبوة في الجزء الثاني من الكتاب الفرق بين النبوة و الرسالة، فقد كان يومئذ نبيا فحسب ثم اختاره الله للرسالة، و ظاهر الكلام أنه كان أوتي الكتاب و النبوة لا أن ذلك إخبار بما سيقع.

قوله تعالى: «و جعلني مباركا أين ما كنت و أوصاني بالصلاة و الزكاة ما دمت حيا» كونه (عليه السلام) مباركا أينما كان هو كونه محلا لكل بركة و البركة نماء الخير كان نفاعا للناس يعلمهم العلم النافع و يدعوهم إلى العمل الصالح و يربيهم تربية زاكية و يبرىء الأكمه و الأبرص و يصلح القوي و يعين الضعيف.

و قوله: «و أوصاني بالصلاة و الزكاة» إلخ، إشارة إلى تشريع الصلاة و الزكاة في شريعته، و الصلاة هي التوجه العبادي الخاص إلى الله سبحانه و الزكاة الإنفاق المالي و هذا هو الذي استقر عليه عرف القرآن كلما ذكر الصلاة و الزكاة و قارن بينهما و ذلك في نيف و عشرين موضعا فلا يعتد بقول من قال: إن المراد بالزكاة تزكية النفس و تطهيرها دون الإنفاق المالي.

قوله تعالى: «و برا بوالدتي و لم يجعلني جبارا شقيا» أي جعلني حنينا رءوفا بالناس و من ذلك أني بر بوالدتي و لست جبارا شقيا بالنسبة إلى سائر الناس، و الجبار هو الذي يحمل الناس و لا يتحمل منهم، و نقل عن ابن عطاء أن الجبار الذي لا ينصح و الشقي الذي لا ينتصح.

قوله تعالى: «و السلام علي يوم ولدت و يوم أموت و يوم أبعث حيا» تسليم منه على نفسه في المواطن الثلاثة الكلية التي تستقبله في كونه و وجوده، و قد تقدم توضيحه في آخر قصة يحيى المتقدمة.

نعم بين التسليمتين فرق، فالسلام في قصة يحيى نكرة يدل على النوع، و في هذه القصة محلى بلام الجنس يفيد بإطلاقه الاستغراق، و فرق آخر و هو أن المسلم على يحيى هو الله سبحانه و على عيسى هو نفسه.

قوله تعالى: «ذلك عيسى ابن مريم قول الحق الذي فيه يمترون» الظاهر أن هذه الآية و التي تليها معترضتان، و الآية الثالثة: «و إن الله ربي و ربكم» من تمام قول عيسى (عليه السلام).

و قوله: «ذلك عيسى ابن مريم» الإشارة فيه إلى مجموع ما قص من أمره و شرح من وصفه أي ذلك الذي ذكرنا كيفية ولادته و ما وصفه هو للناس من عبوديته و إيتائه الكتاب و جعله نبيا هو عيسى بن مريم.

و قوله: «قول الحق» منصوب بمقدر أي أقول قول الحق، و قوله: «الذي فيه يمترون» أي يشكون أو يتنازعون، وصف لعيسى، و المعنى: ذلك عيسى بن مريم الذي يشكون أو يتنازعون فيه.

و قيل: المراد بقول الحق كلمة الحق و هو عيسى (عليه السلام) لأن الله سبحانه سماه كلمته في قوله: «و كلمته ألقاها إلى مريم»: النساء: 171 و قوله: «يبشرك بكلمة منه»: آل عمران: 45، و قوله: «بكلمة من الله»: آل عمران: 39، و عليه فقول الحق منصوب على المدح، و يؤيد المعنى الأول قوله تعالى في هذا المعنى في آخر القصة من سورة آل عمران: «الحق من ربك فلا تكن من الممترين»: آل عمران: 60.

قوله تعالى: «ما كان لله أن يتخذ من ولد سبحانه إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون» نفي و إبطال لما قالت به النصارى من بنوة المسيح، و قوله: «إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن» حجة أقيمت على ذلك، و قد عبر بلفظ القضاء للدلالة على ملاك الاستحالة.

و ذلك أن الولد إنما يراد للاستعانة به في الحوائج، و الله سبحانه غني عن ذلك لا يتخلف مراد عن إرادته إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون.

و أيضا الولد هو أجزاء من وجود الوالد يعزلها ثم يربيها بالتدريج حتى يصير فردا مثله، و الله سبحانه غني عن التوسل في فعله إلى التدريج و لا مثل له بل ما أراده كان كما أراده من غير مهلة و تدريج من غير أن يماثله، و قد تقدم نظير هذا المعنى في تفسير قوله: «و قالوا اتخذ الله ولدا سبحانه»، الآية: البقرة: 116 في الجزء الأول من الكتاب.

قوله تعالى: «و إن الله ربي و ربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم» معطوف على قوله: «إني عبد الله» و هو من قول عيسى (عليه السلام)، و من الدليل عليه وقوع الآية بعينها في المحكي من دعوته قومه في قصته من سورة آل عمران، و نظيره في سورة الزخرف حيث قال: «إن الله هو ربي و ربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم فاختلف الأحزاب من بينهم فويل للذين ظلموا من عذاب يوم أليم»: الزخرف: 65.

فلا وجه لما احتمله بعضهم أن الآية استئناف و ابتداء كلام من الله سبحانه أو أمر منه للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يقول: إن الله ربي و «ربكم» إلخ على أن سياق الآيات أيضا لا يساعد على شيء من الوجهين فهو من كلام عيسى (عليه السلام) ختم كلامه بالاعتراف بالمربوبية كما بدأ كلامه بالشهادة على العبودية ليقطع به دابر غلو الغالين في حقه و يتم الحجة عليهم.

يتبع...

العودة إلى القائمة

التالي