الميزان في تفسير القرآن

سورة الكهف

9 - 26

تابع
أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا (9) إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا (10) فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا (11) ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا (12) نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُم بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى (13) وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لَن نَّدْعُوَ مِن دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا (14) هَؤُلاء قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً لَّوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِم بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا (15) وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مِّن رَّحْمَتِه ويُهَيِّئْ لَكُم مِّنْ أَمْرِكُم مِّرْفَقًا (16) وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَت تَّزَاوَرُ عَن كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَت تَّقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِّنْهُ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ مَن يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُّرْشِدًا (17) وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُم بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا (18) وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُم بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُم بِرِزْقٍ مِّنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا (19) إِنَّهُمْ إِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَن تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا (20) وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِم بُنْيَانًا رَّبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِم مَّسْجِدًا (21) سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُل رَّبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِم مَّا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ قَلِيلٌ فَلا تُمَارِ فِيهِمْ إِلاَّ مِرَاء ظَاهِرًا وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِم مِّنْهُمْ أَحَدًا (22) وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إِلاَّ أَن يَشَاء اللَّهُ وَاذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَن يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا (24) وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا (25) قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا (26)

و من هنا يستفاد أن القوم كانوا سبعة أو أزيد إذ قد وقع في حكاية محاورتهم «قال» مرة و «قالوا» مرتين و أقل الجمع ثلاثة فقد كانوا لا يقل عددهم من سبعة.

و قوله تعالى: «فابعثوا أحدكم بورقكم هذه إلى المدينة فلينظر أيها أزكى طعاما فليأتكم برزق منه» من تتمة المحاورة و فيه أمر أو عرض لهم أن يرسلوا رسولا منهم إلى المدينة ليشتري لهم طعاما يتغذون به و الضمير في «أيها» راجع إلى المدينة و المراد بها أهلها من الكسبة استخداما.

و زكاء الطعام كونه طيبا و قيل: كونه حلالا و قيل: كونه طاهرا و وروده بصيغة أفعل التفضيل «أزكى طعاما» لا يخلو من إشعار بالمعنى الأول.

و الضمير في «منه» للطعام المفهوم من الكلام و قيل: للأزكى طعاما و «من» للابتداء أو التبعيض أي ليأتكم من ذلك الطعام الأزكى برزق ترتزقون به، و قيل: الضمير للورق و «من» للبداية و هو بعيد لإحواجه إلى تقدير ضمير آخر يرجع إلى الجملة السابقة و كونه ضمير التذكير و قد أشير إلى الورق بلفظ التأنيث من قبل.

و قوله تعالى: «و ليتلطف و لا يشعرن بكم أحدا» التلطف إعمال اللطف و الرفق و إظهاره فقوله: «و لا يشعرن بكم أحدا» عطف تفسيري له و المراد على ما يعطيه السياق: ليتكلف اللطف مع أهل المدينة في ذهابه و مجيئه و معاملته لهم كي لا يقع خصومة أو منازعة لتؤدي إلى معرفتهم بحالكم و إشعارهم بكم، و قيل المعنى ليتكلف اللطف في المعاملة و إطلاق الكلام يدفعه.

و قوله تعالى: «إنهم إن يظهروا عليكم يرجموكم أو يعيدوكم في ملتهم و لن تفلحوا إذا أبدا» تعليل للأمر بالتلطف و بيان لمصلحته.

ظهر على الشيء بمعنى اطلع عليه و علم به و بمعنى ظفر به و قد فسرت الآية بكل من المعنيين و الكلمة على ما ذكره الراغب مأخوذة من الظهر بمعنى الجارحة مقابل البطن فكان هو الأصل ثم استعير للأرض فقيل: ظهر الأرض مقابل بطنها ثم أخذ منه الظهور بمعنى الانكشاف مقابل البطون للملازمة بين الكون على وجه الأرض و بين الرؤية و الاطلاع و كذا بينه و بين الظفر و كذا بينه و بين الغلبة عادة فقيل: ظهر عليه أي اطلع عليه و علم بمكانه أو ظفر به أو غلبه ثم اتسعوا في الاشتقاق فقالوا: أظهر و ظاهر و تظاهر و استظهر إلى غير ذلك.

و ظاهر السياق أن يكون «يظهروا عليكم» بمعنى يطلعوا عليكم و يعلموا بمكانكم فإنه أجمع المعاني لأن القوم كانوا ذوي أيد و قوة و قد هربوا و استخفوا منهم فلو اطلعوا عليهم ظفروا بهم و غلبوهم على ما أرادوا.

و قوله: «يرجموكم» أي يقتلوكم بالحجارة و هو شر القتل و يتضمن معنى النفرة و الطرد، و في اختيار الرجم على غيره من أصناف القتل إشعار بأن أهل المدينة عامة كانوا يعادونهم لدينهم فلو ظهروا عليهم بادروا إليهم و تشاركوا في قتلهم و القتل الذي هذا شأنه يكون بالرجم عادة.

و قوله: «أو يعيدوكم في ملتهم» الظاهر أن الإعادة مضمن معنى الإدخال و لذا عدي بفي دون إلى.

و كان لازم دخولهم في ملتهم عادة و قد تجاهروا برفضها و سموها شططا من القول و افتراء على الله بالكذب - أن لا يقنع القوم بمجرد اعترافهم بحقية الملة صورة دون أن يثقوا بصدقهم في الاعتراف و يراقبوهم في أعمالهم فيشاركوا الناس في عبادة الأوثان و الإتيان بجميع الوظائف الدينية التي لهم و الحرمان عن العمل بشيء من شرائع الدين الإلهي و التفوه بكلمة الحق.

و هذا كله لا بأس به على من اضطر على الإقامة في بلاد الكفر و الانحصار بين أهله كالأسير المستضعف بحكم العقل و النقل و قد قال تعالى: «إلا من أكره و قلبه مطمئن بالإيمان»: النحل: 106 و قال تعالى: «إلا أن تتقوا منهم تقاة»: آل عمران: 28 فله أن يؤمن بقلبه و ينكره بلسانه و أما من كان بنجوة منهم و هو حر في اعتقاده و عمله ثم ألقى بنفسه في مهلكة الضلال و تسبب إلى الانحصار في مجتمع الكفر فلم يستطع التفوه بكلمة الحق و حرم التلبس بالوظائف الدينية الإنسانية فقد حرم على نفسه السعادة و لن يفلح أبدا قال تعالى: «إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا أ لم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنم و ساءت مصيرا»: النساء: 97.

و بهذا يظهر وجه ترتب قوله: «و لن تفلحوا إذا أبدا» على قوله: «أو يعيدوكم في ملتهم» و يندفع ما قيل: إن إظهار الكفر بالإكراه مع إبطان الإيمان معفو عنه في جميع الأزمان فكيف رتب على العود في ملتهم عدم الفلاح أبدا مع أن الظاهر من حالهم الكره هذا فإنهم لو عرضوا بأنفسهم عليهم أو دلوهم بوجه على مكانهم فأعادوهم في ملتهم و لو على كره كان ذلك منهم تسببا اختياريا إلى ذلك و لم يعذروا البتة.

و قد أجابوا عن الإشكال بوجوه أخر غير مقنعة: منها: أن الإكراه على الكفر قد يكون سببا لاستدراج الشيطان إلى استحسانه و الاستمرار عليه و فيه أن لازم هذا الوجه أن يقال: و يخاف عليكم أن لا تفلحوا أبدا إلا أن يقضى بعدم الفلاح قطعا.

و منها: أنه يجوز أن يكون أراد يعيدوكم إلى دينهم بالاستدعاء دون الإكراه و أنت خبير بأن سياق القصة لا يساعد عليه.

و منها: أنه يجوز أن يكون في ذلك الوقت كان لا يجوز التقية بإظهار الكفر مطلقا و فيه عدم الدليل على ذلك.

و سياق ما حكى من محاورتهم أعني قوله: «لبثتم» إلى تمام الآيتين سياق عجيب دال على كمال تحابهم في الله و مواخاتهم في الدين و أخذهم بالمساواة بين أنفسهم و نصح بعضهم لبعض و إشفاق بعضهم على بعض فقد تقدم أن قول القائلين: «ربكم أعلم بما لبثتم» تنبيه و دلالة على موقع من التوحيد أعلى و أرفع درجة مما يدل عليه قول الآخرين «لبثنا يوما أو بعض يوم»».

ثم قول القائل: «فابعثوا» حيث عرض بعث الرسول على الجميع و لم يستبد بقول: ليذهب أحدكم و قوله: «أحدكم» و لم يقل اذهب يا فلان أو ابعثوا فلانا و قوله: «بورقكم هذه» فأضاف الورق إلى الجميع كل ذلك دليل المواخاة و المساواة.

ثم قوله: «فلينظر أيها أزكى طعاما» إلخ و قوله: «و ليتلطف» إلخ نصح و قوله: «إنهم إن يظهروا عليكم» إلخ نصح لهم و إشفاق على نفوسهم بما هم مؤمنون على دينهم.

و قوله تعالى: «بورقكم هذه» على ما فيه من الإضافة و الإشارة المعينة لشخص الورق مشعر بعناية خاصة بذكرها فإن سياق استدعاء أن يبعثوا أحدا لاشتراء طعام لهم لا يستوجب بالطبع ذكر الورق التي يشتري بها الطعام و الإشارة إليها بشخصها و لعلها إنما ذكرت في الآية مع خصوصية الإشارة لأنها كانت هي السبب لظهور أمرهم و انكشاف حالهم لأنها حين أخرجها رسومها ليدفعها ثمنا للطعام كانت من مسكوكات عهد مرت عليها ثلاثة قرون و ليس في آيات القصة ما يشعر بسبب ظهور أمرهم و انكشاف حالهم إلا هذه اللفظة.

قوله تعالى: «و كذلك أعثرنا عليهم ليعلموا أن وعد الله حق و أن الساعة لا ريب فيها إذ يتنازعون بينهم أمرهم» قال في المفردات:، عثر الرجل يعثر عثرا و عثورا إذا سقط و يتجوز به فيمن يطلع على أمر من غير طلبه قال تعالى: فإن عثر على أنهما استحقا إثما. يقال عثرت على كذا قال: «و كذلك أعثرنا عليهم» أي وقفناهم عليهم من غير أن طلبوا.

انتهى.

و التشبيه في قوله: «و كذلك أعثرنا عليهم» كنظيره في قوله: «و كذلك بعثناهم» أي و كما أنساهم دهرا ثم بعثناهم لكذا و كذا كذلك أعثرنا عليهم و مفعول أعثرنا هو الناس المدلول عليه بالسياق كما يشهد به ذيل الآية و قوله: «ليعلموا أن وعد الله حق» ضمير الجمع للناس و المراد بوعد الله على ما يعطيه السياق البعث و يكون قوله: «و أن الساعة لا ريب فيها» عطفا تفسيريا لسابقه.

و قوله: «إذ يتنازعون بينهم أمرهم» ظرف لقوله: «أعثرنا» أو لقوله «ليعلموا» و التنازع التخاصم قيل: أصل التنازع التجاذب و يعبر به عن التخاصم و هو باعتبار أصل معناه يتعدى بنفسه، و باعتبار التخاصم يتعدى بفي كقوله تعالى: «فإن تنازعتم في شيء» انتهى.

و المراد بتنازع الناس بينهم أمرهم تنازعهم في أمر البعث و إنما أضيف إليهم إشعارا باهتمامهم و اعتنائهم بشأنه فهذه حال الآية من جهة مفرداتها بشهادة بعضها على بعض.

و المعنى على ما مر: و كما أنمناهم ثم بعثناهم لكذا و كذا أطلعنا الناس عليهم في زمان يتنازعون أي الناس بينهم في أمر البعث ليعلموا أن وعد الله بالبعث حق و أن الساعة لا ريب فيها.

أو المعنى أعثرنا عليهم ليعلم الناس مقارنا لزمان يتنازعون فيه بينهم في أمر البعث أن وعد الله بالبعث حق.

و أما دلالة بعثهم عن النوم على أن البعث يوم القيامة حق فإنما هو من جهة أن انتزاع أرواحهم عن أجسادهم ذاك الدهر الطويل و تعطيل شعورهم و ركود حواسهم عن أعمالها و سقوط آثار القوى البدنية كالنشو و النماء و نبات الشعر و الظفر و تغير الشكل و ظهور الشيب و غير ذلك و سلامة ظاهر أبدانهم و ثيابهم عن الدثور و البلى ثم رجوعهم إلى حالهم يوم دخلوا الكهف بعينها يماثل انتزاع الأرواح عن الأجساد بالموت ثم رجوعها إلى ما كانت عليها، و هما معا من خوارق العادة لا يدفعهما إلا الاستبعاد من غير دليل.

و قد حدث هذا الأمر في زمان ظهر التنازع بين طائفتين من الناس موحد يرى مفارقة الأرواح الأجساد عند الموت ثم رجوعها إليها في البعث و مشرك 1 يرى مغايرة الروح البدن و مفارقتها له عند الموت لكنه لا يرى البعث و ربما رأى التناسخ.

فحدوث مثل هذه الحادثة في مثل تلك الحال لا يدع ريبا لأولئك الناس أنها آية إلهية قصد بها إزالة الشك عن قلوبهم في أمر البعث بالدلالة بالمماثل على المماثل و رفع الاستبعاد بالوقوع.

و يقوى هذا الحدس منهم و يشتد بموتهم بعيد الانبعاث فلم يعيشوا بعده إلا سويعات لم تسع أزيد من اطلاع الناس على حالهم و اجتماعهم عليهم و استخبارهم عن قصتهم و إخبارهم بها.

و من هنا يظهر وجه آخر لقوله تعالى: «إذ يتنازعون بينهم أمرهم» و هو رجوع الضميرين الأولين إلى الناس و الثالث إلى أصحاب الكهف و كون «إذ» ظرفا لقوله «ليعلموا» و يؤيده قوله بعده: «ربهم أعلم بهم» على ما سيجيء.

و الاعتراض على هذا الوجه أولا: بأنه يستدعي كون التنازع بعد الإعثار و ليس كذلك و ثانيا بأن التنازع كان قبل العلم و ارتفع به فكيف يكون وقته وقته، مدفوع بأن التنازع على هذا الوجه في الآية هو تنازع الناس في أمر أصحاب الكهف و قد كان بعد الإعثار و مقارنا للعلم زمانا، و الذي كان قبل الإعثار و قبل العلم هو تنازعهم في أمر البعث و ليس بمراد على هذا الوجه.

و قوله تعالى: «فقالوا ابنوا عليهم بنيانا ربهم أعلم بهم» القائلون هم المشركون من القوم بدليل قوله بعده: «قال الذين غلبوا على أمرهم» و المراد ببناء البنيان عليهم على ما قيل أن يضرب عليهم ما يجعلون به وراءه و يسترون عن الناس فلا يطلع عليهم مطلع منهم كما يقال: بنى عليه جدارا إذا حوطه و جعله وراءه.

و هذا الشطر من الكلام بانضمامه إلى ما قبله من قوله: «و كذلك بعثناهم» «و كذلك أعثرنا عليهم» يلوح إلى تمام القصة كأنه قيل: و لما أن جاء رسولهم إلى المدينة و قد تغيرت الأحوال و تبدلت الأوضاع بمرور ثلاثة قرون على دخولهم في الكهف و انقضت سلطة الشرك و ألقي زمام المجتمع إلى التوحيد و هو لا يدري لم يلبث دون أن ظهر أمره و شاع خبره فاجتمع عليه الناس ثم هجموا و ازدحموا على باب الكهف فاستنبئوهم قصتهم و حصلت الدلالة الإلهية ثم إن الله قبضهم إليه فلم يلبثوا أحياء بعد انبعاثهم إلا سويعات ارتفعت بها عن الناس شبهتهم في أمر البعث و عندئذ قال المشركون ابنوا عليهم بنيانا ربهم أعلم بهم.

و في قوله: «ربهم أعلم بهم» إشارة إلى وقوع خلاف بين الناس المجتمعين عليهم أمرهم، فإنه كلام آيس من العلم بهم و استكشاف حقيقة أمرهم يلوح منه أن القوم تنازعوا في شيء مما يرجع إليهم فتبصر فيه بعضهم و لم يسكن الآخرون إلى شيء و لم يرتضوا رأي مخالفيهم فقالوا: ابنوا لهم بنيانا ربهم أعلم بهم.

فمعنى الجملة أعني قوله: «ربهم أعلم بهم» يتفاوت بالنظر إلى الوجهين المتقدمين في قوله: «إذ يتنازعون بينهم أمرهم» إذ للجملة على أي حال نوع تفرع على تنازع بينهم كما عرفت آنفا فإن كان التنازع المدلول عليه بقوله: «إذ يتنازعون بينهم أمرهم» هو التنازع في أمر البعث بالإقرار و الإنكار لكون ضمير «أمرهم» للناس كان المعنى أنهم تنازعوا في أمر البعث فأعثرناهم عليهم ليعلموا أن وعد الله حق و أن الساعة لا ريب فيها لكن المشركين لم ينتهوا بما ظهرت لهم من الآية فقالوا ابنوا على أصحاب الكهف بنيانا و اتركوهم على حالهم ينقطع عنهم الناس فلم يظهر لنا من أمرهم شيء و لم نظفر فيهم على يقين ربهم أعلم بهم، و قال الموحدون أمرهم ظاهر و آيتهم بينة و لنتخذن عليهم مسجدا يعبد فيه الله و يبقى ببقائه ذكرهم.

و إن كان التنازع هو التنازع في أصحاب الكهف و ضمير «أمرهم» راجعا إليهم كان المعنى أنا أعثرنا الناس عليهم بعد بعثهم عن نومتهم ليعلم الناس أن وعد الله حق و أن الساعة لا ريب فيها عند ما توفاهم الله بعد إعثار الناس عليهم و حصول الغرض و هم أي الناس يتنازعون بينهم في أمرهم أي أمر أصحاب الكهف كأنهم اختلفوا: أ نيام القوم أم أموات؟ و هل من الواجب أن يدفنوا و يقبروا أو يتركوا على هيئتهم في فجوة الكهف فقال المشركون: ابنوا عليهم بنيانا و اتركوهم على حالهم ربهم أعلم بهم أ نيام أم أموات؟ قال الموحدون: «لنتخذن عليهم مسجدا».

لكن السياق يؤيد المعنى الأول لأن ظاهره كون قول الموحدين: «لنتخذن عليهم مسجدا» ردا منهم لقول المشركين: «ابنوا عليهم بنيانا» إلخ» و القولان من الطائفتين إنما يتنافيان على المعنى الأول، و كذا قولهم: «ربهم أعلم بهم» و خاصة حيث قالوا: «ربهم» و لم يقولوا: ربنا أنسب بالمعنى الأول.

و قوله: «قال الذين غلبوا على أمرهم لنتخذن عليهم مسجدا» هؤلاء القائلون هم الموحدون و من الشاهد عليه التعبير عما اتخذوه بالمسجد دون المعبد فإن المسجد في عرف القرآن هو المحل المتخذ لذكر الله و السجود له قال تعالى: «و مساجد يذكر فيها اسم الله»: الحج: 40.

و قد جاء الكلام بالفصل من غير عطف لكونه بمنزلة جواب عن سؤال مقدر كأن قائلا يقول فما ذا قال غير المشركين؟ فقيل: قال الذين غلبوا إلخ، و أما المراد بغلبتهم على أمرهم فإن كان المراد بأمرهم هو الأمر المذكور في قوله: «إذ يتنازعون بينهم أمرهم» و الضمير للناس فالمراد بالغلبة غلبة الموحدين بنجاحهم بالآية التي قامت على حقية البعث، و إن كان الضمير للفتية فالغلبة من حيث التصدي لأمرهم و الغالبون هم الموحدون و قيل: الملك و أعوانه، و قيل: أولياؤهم من أقاربهم و هو أسخف الأقوال.

و إن كان المراد بأمرهم غير الأمر السابق و الضمير للناس فالغلبة أخذ زمام أمور المجتمع بالملك و ولاية الأمور، و الغالبون هم الموحدون أو الملك و أعوانه و إن كان الضمير عائدا إلى الموصول فالغالبون هم الولاة و المراد بغلبتهم على أمورهم أنهم غالبون على ما أرادوه من الأمور قادرون هذا، و أحسن الوجوه أولها.

و الآية من معارك آراء المفسرين و لهم في مفرداتها و في ضمائر الجمع التي فيها و في جملها اختلاف عجيب و الاحتمالات التي أبدوها في معاني مفرداتها و مراجع ضمائرها و أحوال جملها إذا ضربت بعضها في بعض بلغت الألوف، و قد أشرنا منها إلى ما يلائم السياق و على الطالب لأزيد من ذلك أن يراجع المطولات.

قوله تعالى: «سيقولون ثلاثة رابعهم كلبهم - إلى قوله - و ثامنهم كلبهم» يذكر تعالى اختلاف الناس في عدد أصحاب الكهف و أقوالهم فيه، و هي على ما ذكره تعالى - و قوله الحق - ثلاثة مترتبة متصاعدة أحدها أنهم ثلاثة رابعهم كلبهم و الثاني أنهم خمسة و سادسهم كلبهم و قد عقبه بقوله: «رجما بالغيب» أي قولا بغير علم.

و هذا التوصيف راجع إلى القولين جميعا: و لو اختص بالثاني فقط كان من حق الكلام أن يقدم القول الثاني و يؤخر الأول و يذكر مع الثالث الذي لم يذكر معه ما يدل على عدم ارتضائه.

و القول الثالث أنهم سبعة و ثامنهم كلبهم، و قد ذكره الله سبحانه و لم يعقبه بشيء يدل على تزييفه، و لا يخلو ذلك من إشعار بأنه القول الحق، و قد تقدم في الكلام على محاورتهم المحكية بقوله تعالى: «قال قائل منهم كم لبثتم قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم قالوا ربكم أعلم بما لبثتم» أنه مشعر بل دال على أن عددهم لم يكن بأقل من سبعة.

يتبع...

العودة إلى القائمة

التالي