الميزان في تفسير القرآن

سورة الكهف

83 - 102

وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُم مِّنْهُ ذِكْرًا (83) إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا (84) فَأَتْبَعَ سَبَبًا (85) حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِندَهَا قَوْمًا قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَن تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَن تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا (86) قَالَ أَمَّا مَن ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُّكْرًا (87) وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاء الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا (88) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا (89) حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَّمْ نَجْعَل لَّهُم مِّن دُونِهَا سِتْرًا (90) كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا (91) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا (92) حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِن دُونِهِمَا قَوْمًا لّا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلا (93) قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَن تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا (94) قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا (95) آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا (96) فَمَا اسْطَاعُوا أَن يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا (97) قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِّن رَّبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاء وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا (98) وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا (99) وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِّلْكَافِرِينَ عَرْضًا (100) الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَن ذِكْرِي وَكَانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا (101) أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَن يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِن دُونِي أَوْلِيَاء إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلا (102)

بيان

الآيات تشتمل على قصة ذي القرنين، و فيها شيء من ملاحم القرآن: قوله تعالى: «و يسألونك عن ذي القرنين قل سأتلوا عليكم منه ذكرا» أي يسألونك عن شأن ذي القرنين.

و الدليل على ذلك جوابه عن السؤال بذكر شأنه لا تعريف شخصه حتى اكتفى بلقبه فلم يتعد منه إلى ذكر اسمه.

و الذكر إما مصدر بمعنى المفعول و المعنى قل سأتلو عليكم منه أي من ذي القرنين شيئا مذكورا، و إما المراد بالذكر القرآن - و قد سماه الله في مواضع من كلامه بالذكر و المعنى قل سأتلو عليكم منه أي من ذي القرنين أو من الله قرآنا و هو ما يتلو هذه الآية من قوله: «إنا مكنا له» إلى آخر القصة، و المعنى الثاني أظهر.

قوله تعالى: «إنا مكنا له في الأرض و آتيناه من كل شيء سببا» التمكين الإقدار يقال: مكنته و مكنت له أي أقدرته فالتمكن في الأرض القدرة على التصرف فيه بالملك كيفما شاء و أراد.

و ربما يقال: إنه مصدر مصوغ من المكان بتوهم أصالة الميم فالتمكين إعطاء الاستقرار و الثبات بحيث لا يزيله عن مكانه أي مانع مزاحم.

و السبب الوصلة و الوسيلة فمعنى إيتائه سببا من كل شيء أن يؤتى من كل شيء يتوصل به إلى المقاصد الهامة الحيوية ما يستعمله و يستفيد منه كالعقل و العلم و الدين و قوة الجسم و كثرة المال و الجند و سعة الملك و حسن التدبير و غير ذلك و هذا امتنان منه تعالى على ذي القرنين و إعظام لأمره بأبلغ بيان، و ما حكاه تعالى من سيرته و فعله و قوله المملوءة حكمة و قدرة يشهد بذلك.

قوله تعالى: «فأتبع سببا» الإتباع اللحوق أي لحق سببا و اتخذ وصلة وسيلة يسير بها نحو مغرب الشمس.

قوله تعالى: «حتى إذا بلغ مغرب الشمس وجدها تغرب في عين حمئة و وجد عندها قوما» تدل «حتى» على فعل مقدر و تقديره «فسار حتى إذا بلغ» و المراد بمغرب الشمس آخر المعمورة يومئذ من جانب الغرب بدليل قوله: «و وجد عندها قوما».

و ذكروا أن المراد بالعين الحمئة العين ذات الحمأة و هي الطين الأسود و أن المراد بالعين البحر فربما تطلق عليه، و أن المراد بوجدان الشمس تغرب في عين حمئة موقف على ساحل بحر لا مطمع في وجود بر وراءه فرأى الشمس كأنها تغرب في البحر لمكان انطباق الأفق عليه قيل: و ينطبق هذه العين الحمئة على المحيط الغربي و فيه الجزائر الخالدات التي كانت مبدأ الطول سابقا ثم غرقت.

و قرىء «في عين حامية» أي حارة، و ينطبق على النقاط القريبة من خط الاستواء من المحيط الغربي المجاورة لإفريقية و لعل ذا القرنين في رحلته الغربية بلغ سواحل إفريقية.

قوله تعالى: «قلنا يا ذا القرنين إما أن تعذب و إما أن تتخذ فيهم حسنا» القول المنسوب إليه تعالى في القرآن يستعمل في الوحي النبوي و في الإبلاغ بواسطة الوحي كقوله تعالى: «و قلنا يا آدم اسكن»: البقرة: 35 و قوله: «و إذ قلنا ادخلوا هذه القرية»: البقرة: 58، و يستعمل في الإلهام الذي ليس من النبوة كقوله «و أوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه»: القصص: 7.

و به يظهر أن قوله: «قلنا يا ذا القرنين» إلخ لا يدل على كونه نبيا يوحى إليه لكون قوله تعالى أعم من الوحي المختص بالنبوة و لا يخلو قوله: «ثم يرد إلى ربه فيعذبه» إلخ حيث أورد في سياق الغيبة بالنسبة إليه تعالى من إشعار بأن مكالمته كانت بتوسط نبي كان معه فملكه نظير ملك طالوت في بني إسرائيل بإشارة من نبيهم و هدايته.

و قوله: «إما أن تعذب و إما أن تتخذ فيهم حسنا» أي إما أن تعذب هؤلاء القوم و إما أن تتخذ فيهم أمرا ذا حسن، فحسنا مصدر بمعنى الفاعل قائم مقام موصوفه أو هو وصف للمبالغة، و قد قيل: إن في مقابلة العذاب باتخاذ الحسن إيماء إلى ترجيحه و الكلام ترديد خبري بداعي الإباحة فهو إنشاء في صورة الإخبار، و المعنى لك أن تعذبهم و لك أن تعفو عنهم كما قيل، لكن الظاهر أنه استخبار عما سيفعله بهم من سياسة أو عفو، و هو الأوفق بسياق الجواب المشتمل على التفصيل بالتعذيب و الإحسان «أما من ظلم فسوف نعذبه» إلخ إذ لو كان قوله: «إما أن تعذب» إلخ حكما تخييريا لكان قوله: «أما من ظلم» إلخ تقريرا له و إيذانا بالقبول و لا كثير فائدة فيه.

و محصل المعنى: استخبرناه ما ذا تريد أن تفعل بهم من العذاب و الإحسان و قد غلبتهم و استوليت عليهم؟ فقال: نعذب الظالم منهم ثم يرد إلى ربه فيعذبه العذاب النكر، و نحسن إلى المؤمن الصالح و نكلفه بما فيه يسر.

و لم يذكر المفعول في قوله: «إما أن تعذب» بخلاف قوله: «إما أن تتخذ فيهم حسنا» لأن جميعهم لم يكونوا ظالمين، و ليس من الجائز تعميم العذاب لقوم هذا شأنهم بخلاف تعميم الإحسان لقوم فيهم الصالح و الطالح.

قوله تعالى: «أما من ظلم فسوف نعذبه ثم يرد إلى ربه فيعذبه عذابا نكرا» النكر و المنكر غير المعهود أي يعذبه عذابا لا عهد له به، و لا يحتسبه و يترقبه.

و قد فسر الظلم بالإشراك.

و التعذيب بالقتل فمعنى «أما من ظلم فسوف نعذبه» أما من أشرك و لم يرجع عن شركه فسوف نقتله، و كأنه مأخوذ من مقابلة «من ظلم» بقوله: «من آمن و عمل صالحا» لكن الظاهر من المقابلة أن يكون المراد بالظالم أعم ممن أشرك و لم يؤمن بالله أو آمن و لم يشرك لكنه لم يعمل صالحا بل أفسد في الأرض، و لو لا تقييد مقابله بالإيمان لكان ظاهر الظلم هو الإفساد من غير نظر إلى الشرك لأن المعهود من سيرة الملوك إذا عدلوا أن يطهروا أرضهم من فساد المفسدين، و كذا لا دليل على تخصيص التعذيب بالقتل.

قوله تعالى: «و أما من آمن و عمل صالحا فله جزاء الحسنى» إلخ «صالحا» وصف أقيم مقام موصوفه و كذا الحسنى، و «جزاء» حال أو تمييز أو مفعول مطلق و التقدير: و أما من آمن و عمل عملا صالحا فله المثوبة الحسنى حال كونه مجزيا أو من حيث الجزاء أو نجزيه جزاء.

و قوله: «و سنقول له من أمرنا يسرا» اليسر بمعنى الميسور وصف أقيم مقام موصوفه و الظاهر أن المراد بالأمر الأمر التكليفي و تقدير الكلام و سنقول له قولا ميسورا من أمرنا أي نكلفه بما يتيسر له و لا يشق عليه.

قوله تعالى: «ثم أتبع سببا حتى إذا بلغ مطلع الشمس» إلخ أي ثم هيأ سببا للسير فسار نحو المشرق حتى إذا بلغ الصحراء من الجانب الشرقي فوجد الشمس تطلع على قوم بدويين لم نجعل لهم من دونها سترا.

و المراد بالستر ما يستتر به من الشمس، و هو البناء و اللباس أو خصوص البناء أي كانوا يعيشون على الصعيد من غير أن يكون لهم بيوت يأوون إليها و يستترون بها من الشمس و عراة لا لباس عليهم، و إسناد ذلك إلى الله سبحانه في قوله: «لم نجعل لهم» إلخ إشارة إلى أنهم لم يتنبهوا بعد لذلك و لم يتعلموا بناء البيوت و اتخاذ الخيام و نسج الأثواب و خياطتها.

قوله تعالى: «كذلك و قد أحطنا بما لديه خبرا» الظاهر أن قوله: «كذلك» إشارة إلى وصفهم المذكور في الكلام، و تشبيه الشيء بنفسه مبنيا على دعوى المغايرة يفيد نوعا من التأكيد، و قد قيل في المشار إليه بذلك وجوه أخر بعيدة عن الفهم.

و قوله: «و قد أحطنا بما لديه خبرا» الضمير لذي القرنين، و الجملة حالية و المعنى أنه اتخذ وسيلة السير و بلغ مطلع الشمس و وجد قوما كذا و كذا في حال أحاط فيها علمنا و خبرنا بما عنده من عدة و عدة و ما يجريه أو يجري عليه، و الظاهر أن إحاطة علمه تعالى بما عنده كناية عن كون ما اختاره و أتى به بهداية من الله و أمر، فما كان يرد و لا يصدر إلا عن هداية يهتدي بها و أمر يأتمره كما أشار إلى مثل هذا المعنى عند ذكر مسيره إلى المغرب بقوله: «قلنا يا ذا القرنين» إلخ.

فالآية أعني قوله: «و قد أحطنا» إلخ في معناها الكنائي نظيرة قوله: «و اصنع الفلك بأعيننا و وحينا»: هود: 37، و قوله: «أنزله بعلمه»: النساء: 166، و قوله: «و أحاط بما لديهم»: الجن: 28.

و قيل: إن الآية لإفادة تعظيم أمره و أنه لا يحيط بدقائقه و جزئياته إلا الله أو لتهويل ما قاساه ذو القرنين في هذا المسير و أن ما تحمله من المصائب و الشدائد في علم الله لم يكن ليخفى عليه، أو لتعظيم السبب الذي أتبعه، و ما قدمناه أوجه.

قوله تعالى: «ثم أتبع سببا حتى إذا بلغ بين السدين» إلى آخر الآية.

السد الجبل و كل حاجز يسد طريق العبور و كأن المراد بهما الجبلان، و قوله: «وجد من دونهما قوما» أي قريبا منهما، و قوله: «لا يكادون يفقهون قولا» كناية عن بساطتهم و سذاجة فهمهم، و ربما قيل: كناية عن غرابة لغتهم و بعدها عن اللغات المعروفة عندهم، و لا يخلو عن بعد.

قوله تعالى: «قالوا يا ذا القرنين إن يأجوج و مأجوج مفسدون» إلخ الظاهر أن القائلين هم القوم الذين وجدهم من دون الجبلين، و يأجوج و مأجوج جيلان من الناس كانوا يأتونهم من وراء الجبلين فيغيرون عليهم و يعمونهم قتلا و سببا و نهبا و الدليل عليه السياق بما فيه من ضمائر أولي العقل و عمل السد بين الجبلين و غير ذلك.

و قوله: «فهل نجعل لك خرجا» الخرج ما يخرج من المال ليصرف في شيء من الحوائج عرضوا عليه أن يعطوه مالا على أن يجعل بينهم و بين يأجوج و مأجوج سدا يمنع من تجاوزهم و تعديهم عليهم.

قوله تعالى: «قال ما مكني فيه ربي خير فأعينوني بقوة أجعل بينكم و بينهم ردما» أصل «مكني» مكنني ثم أدغمت إحدى النونين في الأخرى، و الردم السد و قيل السد القوي، و على هذا فالتعبير بالردم في الجواب و قد سألوه سدا إجابة و وعد بما هو فوق ما استدعوه و أملوه.

و قوله: «قال ما مكني فيه ربي خير» استغناء من ذي القرنين عن خرجهم الذي عرضوه عليه على أن يجعل لهم سدا يقول: ما مكنني فيه و أقرني عليه ربي من السعة و القدرة خير من المال الذي تعدونني به فلا حاجة لي إليه.

و قوله: «فأعينوني بقوة» إلخ القوة ما يتقوى به على الشيء و الجملة تفريع على ما يتحصل من عرضهم و هو طلبهم منه أن يجعل لهم سدا، و محصل المعنى أما الخرج فلا حاجة لي إليه، و أما السد فإن أردتموه فأعينوني بما أتقوى به على بنائه كالرجال و ما يستعمل في بنائه - و قد ذكر منها زبر الحديد و القطر و النفخ بالمنافخ - أجعل لكم سدا قويا.

و بهذا المعنى يظهر أن مرادهم بما عرضوا عليه من الخرج الأجر على عمل السد.

قوله تعالى: «آتوني زبر الحديد» إلى آخر الآية، الزبر بالضم فالفتح جمع زبرة كغرف و غرفة و هي القطعة، و ساوى بمعنى سوى على ما قيل و قرىء «سوى» و الصدفين تثنية الصدف و هو أحد جانبي الجبل ذكر بعضهم أنه لا يقال إلا إذا كان هناك جبل آخر يوازيه بجانبه فهو من الأسماء المتضائفة كالزوج و الضعف و غيرهما و القطر النحاس أو الصفر المذاب و إفراغه صبه على الثقب و الخلل و الفرج.

و قوله: «آتوني زبر الحديد» أي أعطوني إياها لأستعملها في السد و هي من القوة التي استعانهم فيها، و لعله خصها بالذكر و لم يذكر الحجارة و غيرها من لوازم البناء لأنها الركن في استحكام بناء السد فجملة «آتوني زبر الحديد» بدل البعض من الكل من جملة «فأعينوني بقوة» أو الكلام بتقدير قال، و هو كثير في القرآن.

و قوله: «حتى إذا ساوى بين الصدفين قال انفخوا» في الكلام إيجاز بالحذف و التقدير فأعانوه بقوة و آتوه ما طلبه منهم فبنى لهم السد و رفعه حتى إذا سوى بين الصدفين قال: انفخوا.

و قوله: «قال انفخوا» الظاهر أنه من الإعراض عن متعلق الفعل للدلالة على نفس الفعل و المراد نصب المنافخ على السد لإحماء ما وضع فيه من الحديد و إفراغ القطر على خلله و فرجه.

و قوله: «حتى إذا جعله نارا قال» إلخ في الكلام حذف و إيجاز، و التقدير فنفخ حتى إذا جعله أي المنفوخ فيه أو الحديد نارا أي كالنار في هيئته و حرارته فهو من الاستعارة.

و قوله: «قال آتوني أفرغ عليه قطرا» أي آتوني قطرا أفرغه و أصبه عليه ليسد بذلك خلله و يصير السد به مصمتا لا ينفذ فيه نافذ.

قوله تعالى: «فما اسطاعوا أن يظهروه و ما استطاعوا له نقبا» اسطاع و استطاع واحد، و الظهور العلو و الاستعلاء، و النقب الثقب، قال الراغب في المفردات،: النقب في الحائط و الجلد كالثقب في الخشب انتهى و ضمائر الجمع ليأجوج و مأجوج.

و في الكلام حذف و إيجاز، و التقدير فبنى السد فما استطاع يأجوج و مأجوج أن يعلوه لارتفاعه و ما استطاعوا أن ينقبوه لاستحكامه.

قوله تعالى: «قال هذا رحمة من ربي فإذا جاء وعد ربي جعله دكاء و كان وعد ربي حقا» الدكاء الدك و هو أشد الدق مصدر بمعنى اسم المفعول، و قيل: المراد الناقة الدكاء و هي التي لا سنام لها و هو على هذا من الاستعارة و المراد به خراب السد كما قالوا.

و قوله: «قال هذا رحمة من ربي» أي قال ذو القرنين - بعد ما بنى السد - هذا أي السد رحمة من ربي أي نعمة و وقاية يدفع به شر يأجوج و مأجوج عن أمم من الناس.

و قوله: «فإذا جاء وعد ربي جعله دكاء» في الكلام حذف و إيجاز و التقدير و تبقى هذه الرحمة إلى مجيء وعد ربي فإذا جاء وعد ربي جعله مدكوكا و سوى به الأرض.

و المراد بالوعد إما وعد منه تعالى خاص بالسد أنه سيندك عند اقتراب الساعة فيكون هذا ملحمة أخبر بها ذو القرنين، و إما وعده تعالى العام بقيام الساعة الذي يدك الجبال و يخرب الدنيا، و قد أكد القول بجملة «و كان وعد ربي حقا».

قوله تعالى: «و تركنا بعضهم يومئذ يموج في بعض» إلخ ظاهر السياق أن ضمير الجمع للناس و يؤيده رجوع ضمير «فجمعناهم» إلى الناس قطعا لأن حكم الجمع عام.

و في قوله: «بعضهم يومئذ يموج في بعض» استعارة، و المراد أنهم يضطربون يومئذ من شدة الهول اضطراب البحر باندفاع بعضه إلى بعض فيرتفع من بينهم النظم و يحكم فيهم الهرج و المرج و يعرض عنهم ربهم فلا يشملهم برحمته، و لا يصلح شأنهم بعنايته.

فالآية بمنزلة التفصيل للإجمال الذي في قول ذي القرنين: «فإذا جاء وعد ربي جعله دكاء» و نظيره قوله تعالى في موضع آخر: «حتى إذا فتحت يأجوج و مأجوج و هم من كل حدب ينسلون و اقترب الوعد الحق فإذا هي شاخصة أبصار الذين كفروا يا ويلنا قد كنا في غفلة من هذا بل كنا ظالمين»: الأنبياء: 97.

و هي على أي حال من الملاحم.

و قد بان مما مر أن الترك في الآية بمعناه المتبادر منه و هو خلاف الأخذ و لا موجب لما ذكره بعضهم: أن الترك بمعنى الجعل و هو من الأضداد انتهى.

و الآية من كلام الله سبحانه و ليست من تمام كلام ذي القرنين و الدليل عليه تغيير السياق من الغيبة إلى التكلم مع الغير الذي هو سياق كلامه السابق «إنا مكنا له» «قلنا يا ذا القرنين»، و لو كان من تمام كلام ذي القرنين لقيل: و ترك بعضهم على حذاء قوله: «جعله دكاء».

و قوله: «و نفخ في الصور» إلخ هي النفخة الثانية التي فيها الإحياء بدليل قوله «فجمعناهم جمعا و عرضنا جهنم يومئذ للكافرين عرضا».

قوله تعالى: «الذين كانت أعينهم في غطاء عن ذكري و كانوا لا يستطيعون سمعا» تفسير للكافرين و هؤلاء هم الذين ضرب الله بينهم و بين ذكره سدا حاجزا - و بهذه المناسبة تعرض لحالهم بعد ذكر سد يأجوج و مأجوج - فجعل أعينهم في غطاء عن ذكره و أخذ استطاعة السمع عن آذانهم فانقطع الطريق بينهم و بين الحق و هو ذكر الله.

فإن الحق إنما ينال إما من طريق البصر بالنظر إلى آيات الله سبحانه و الاهتداء إلى ما تدل عليه و تهدي إليه، و إما من طريق السمع باستماع الحكمة و الموعظة و القصص و العبر، و لا بصر لهؤلاء و لا سمع.

قوله تعالى: «أ فحسب الذين كفروا أن يتخذوا عبادي من دوني أولياء» إلخ الاستفهام للإنكار قال في المجمع،: معناه أ فحسب الذين جحدوا توحيد الله أن يتخذوا من دوني أربابا ينصرونهم و يدفعون عقابي عنهم قال: و يدل على هذا المحذوف قوله: «إنا أعتدنا جهنم للكافرين نزلا» انتهى.

و هناك وجه ثان منقول عن ابن عباس و هو أن المعنى أ فحسب الذين كفروا أن يتخذوا من دوني آلهة و أنا لا أغضب لنفسي عليهم و لا أعاقبهم.

و وجه ثالث: و هو أن «أن يتخذوا» إلخ مفعول أول لحسب بمعنى ظن و مفعوله الثاني محذوف، و التقدير أ فحسب الذين كفروا اتخاذهم عبادي من دوني أولياء نافعا لهم أو دافعا للعقاب عنهم، و الفرق بين هذا الوجه و الوجهين السابقين أن «أن» و صلته قائمة مقام المفعولين فيهما و المحذوف بعض الصلة فيهما بخلاف الوجه الثالث فأن و صلته فيه مفعول أول لحسب، و المفعول الثاني محذوف.

يتبع...

العودة إلى القائمة

التالي