الميزان في تفسير القرآن

سورة الكهف

60 - 82

تابع
وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا (60) فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا (61) فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِن سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا (62) قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنسَانِيهُ إِلاَّ الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا (63) قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا (64) فَوَجَدَا عَبْدًا مِّنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا (65) قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا (66) قَالَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (67) وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا (68) قَالَ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ صَابِرًا وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا (69) قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْأَلْنِي عَن شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا (70) فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا (71) قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (72) قَالَ لا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا (73) فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلامًا فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَّقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُّكْرًا (74) قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِي صَبْرًا (75) قَالَ إِن سَأَلْتُكَ عَن شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِن لَّدُنِّي عُذْرًا (76) فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَن يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا (77) قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِع عَّلَيْهِ صَبْرًا (78) أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا (79) وَأَمَّا الْغُلامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَن يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا (80) فَأَرَدْنَا أَن يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِّنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا (81) وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِع عَّلَيْهِ صَبْرًا (82)

و قوله: «لقد جئت شيئا نكرا» أي منكرا يستنكره الطبع و لا يعرفه المجتمع و قد عد خرق السفينة إمرا أي داهية يستعقب مصائب لم يقع شيء منها بعد و قتل النفس نكرا أو منكرا و هو أفظع و أفجع عند الناس من الخرق الذي يستوجب عادة هلاك النفوس لكن لا بالمباشرة فعلا.

قوله تعالى: «قال أ لم أقل لك إنك لن تستطيع معي صبرا» معناه ظاهر و زيادة «لك» نوع تقريع له أنه لم يصغ إلى وصيته و إيماء إلى كونه كأنه لم يسمع قوله له أول مرة: «إنك لن تستطيع معي صبرا» أو سمعه و حسب أنه لا يعنيه بل يقصد به غيره كأنه يقول: إنما عنيت بقولي: إنك لن تستطيع «إلخ» إياك دون غيرك.

قوله تعالى: «قال إن سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني قد بلغت من لدني عذرا» الضمير في «بعدها» راجع إلى هذه المرة أو المسألة أي إن سألتك بعد هذه المرة أو هذه المسألة فلا تصاحبني أي يجوز لك أن لا تصاحبني.

و قوله: «قد بلغت من لدني عذرا» أي بلغت عذرا و وجدته كائنا ذلك من لدني إذ بلغ عذرك النهاية من عندي.

قوله تعالى: «فانطلقا حتى إذا أتيا أهل قرية استطعما أهلها» إلى آخر الآية الكلام في قوله: «فانطلقا» «فأبوا» «فوجدا» «فأقامه» كالكلام في قوله في الآية السابقة: «فانطلقا» «فقتله».

و قوله: «استطعما أهلها» صفة لقرية و لم يقل: «استطعماهم» لرداءة قولنا: قرية استطعماهم بخلاف مثل قولنا: أتى قرية على إرادة أتى أهل قرية لأن للقرية نصيبا من الإتيان فيجوز وضعها موضع أهلها مجازا بخلاف الاستطعام لأنه لأهلها خاصة، و على هذا فليس قوله: «أهلها» من وضع الظاهر موضع المضمر.

و لم يقل: حتى إذا أتيا قرية استطعما أهلها لأن القرية كانت تتمحض حينئذ في معناها الحقيقي و الغرض العمدة - كما عرفت - متعلق بالجزاء أعني قوله: «قال لو شئت لتخذت عليه أجرا» و فيه ذكر أخذ الأجر و هو إنما يكون من أهلها لا منها فقوله: «أتيا أهل قرية» دليل على أن إقامة الجدار كانت بحضور من أهل القرية و هو الذي أغنى أن يقال: لو شئت لتخذت عليه منهم أو من أهلها أجرا فافهم ذلك.

و المراد بالاستطعام طلب الطعام بالإضافة و لذا قال: «فأبوا أن يضيفوهما» و قوله «فوجدا فيها جدارا يريد أن ينقض» الانقضاض السقوط، و إرادة الانقضاض مجاز عن الإشراف على السقوط و الانهدام، و قوله: «فأقامه» أي أثبته الخضر بإصلاح شأنه و لم يذكر سبحانه كيف أقامه؟ بنحو خرق العادة أم ببناء أو ضرب دعامة؟ غير أن قول موسى: «لو شئت لتخذت عليه أجرا» مشعر بأنه كان بعمل غير خارق فإن المعهود من أخذ الأجر، ما كان على العاديات.

و قوله: «قال لو شئت لتخذت 1 عليه أجرا» تخذ و أخذ بمعنى واحد، و ضمير «عليه» للإقامة المفهومة من «فأقامه» و هو مصدر جائز الوجهين، و السياق يشهد أنهما كانا جائعين فذكره موسى أخذ الأجرة على عمله إذ لو كان أخذ أجرا أمكنهما أن يشتريا به شيئا من الطعام يسدان به جوعهما.

قوله تعالى: «قال هذا فراق بيني و بينك سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبرا» الإشارة بهذا إلى قول موسى أي هذا القول سبب فراق بيني و بينك أو إلى الوقت أي هذا الوقت وقت فراق بيني و بينك كما قيل، و يمكن أن تكون الإشارة إلى نفس الفراق، و المعنى هذا الفراق قد حضر كأنه كان أمرا غائبا فحضر عند قول موسى: «لو شئت لتخذت» إلخ و قوله: «بيني و بينك» و لم يقل بيننا للتأكيد، و إنما قال الخضر هذا القول بعد الاعتراض الثالث لأن موسى كان قبل ذلك يعتذر إليه كما في الأول أو يستمهله كما في الثاني، و أما الفراق بعد الاعتراض الثالث فقد أعذره موسى فيه إذ قال بعد الاعتراض الثاني: «إن سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني» إلخ و الباقي ظاهر.

قوله تعالى: «أما السفينة فكانت لمساكين» إلخ شروع في تفصيل ما وعد إجمالا بقوله: «سأنبئك» إلخ و قوله: «أن أعيبها» أي أجعلها معيبة و هذه قرينة على أن المراد بكل سفينة كل سفينة غير معيبة.

و قوله: «و كان وراءهم ملك» وراء بمعنى الخلف و هو الظرف المقابل للظرف الآخر الذي يواجهه الإنسان و يسمى قدام و أمام لكن ربما يطلق على الظرف الذي يغفل عنه الإنسان و فيه من يريده بسوء أو مكروه و إن كان قدامه أو فيه ما يعرض عنه الإنسان أو فيه ما يشغل الإنسان بنفسه عن غيره كأن الإنسان ولى وجهه إلى جهة تخالف جهته قال تعالى: «فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون»: المؤمنون: 7، و قال: «و ما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب»: الشورى: 51، و قال: «و الله من ورائهم»: البروج: 20.

و محصل المعنى: أن السفينة كانت لعدة من المساكين يعملون بها في البحر و يتعيشون به و كان هناك ملك جبار أمر بغصب السفن فأردت بخرقها أن أحدث فيها عيبا فلا يطمع فيها الجبار و يدعها لهم.

قوله تعالى: «و أما الغلام فكان أبواه مؤمنين فخشينا أن يرهقهما طغيانا و كفرا» الأظهر من سياق الآية و ما سيأتي من قوله: «و ما فعلته عن أمري» أن يكون المراد بالخشية التحذر عن رأفة و رحمة مجازا لا معناه الحقيقي الذي هو التأثر القلبي الخاص المنفي عنه تعالى و عن أنبيائه كما قال: «و لا يخشون أحدا إلا الله»: الأحزاب: 39، و أن يكون المراد بقوله: «أن يرهقهما طغيانا و كفرا» أن يغشيهما ذلك أي يحمل والديه على الطغيان و الكفر بالإغواء و التأثير الروحي لمكان حبهما الشديد له لكن قوله في الآية التالية: «و أقرب رحما» لا تخلو من تأييد لكون «طغيانا و كفرا» تميزين عن الإرهاق أي وصفين للغلام دون أبويه.

قوله تعالى: «فأردنا أن يبدلهما ربهما خيرا منه زكاة و أقرب رحما» المراد بكونه خيرا منه زكاة كونه خيرا منه صلاحا و إيمانا بقرينة مقابلته الطغيان و الكفر في الآية السابقة، و أصل الزكاة فيما قيل الطهارة، و المراد بكونه أقرب منه رحما كونه أوصل للرحم و القرابة فلا يرهقهما، و أما تفسيره بكونه أكثر رحمة بهما فلا يناسبه قوله «أقرب» منه تلك المناسبة، و هذا - كما عرفت - يؤيد كون المراد من قوله: «يرهقهما طغيانا و كفرا» في الآية السابقة إرهاقه إياهما بطغيانه و كفره لا تكليفه إياهما الطغيان و الكفر و إغشاؤهما ذلك.

و الآية - على أي حال - تلوح إلى أن إيمان أبويه كان ذا قدر عند الله و يستدعي ولدا مؤمنا صالحا يصل رحمهما و قد كان المقضي في الغلام خلاف ذلك فأمر الله الخضر بقتله ليبدلهما خيرا منه زكاة و أقرب رحما.

قوله تعالى: «و أما الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة و كان تحته كنز لهما و كان أبوهما صالحا» لا يبعد أن يستظهر من السياق أن المدينة المذكورة في هذه الآية غير القرية التي وجدا فيها الجدار فأقامه، إذ لو كانت هي هي لم يكن كثير حاجة إلى ذكر كون الغلامين اليتيمين فيها فكان العناية متعلقة بالإشارة إلى أنهما و من يتولى أمرهما غير حاضرين في القرية.

و ذكر يتم الغلامين و وجود كنز لهما تحت الجدار و لو انقض لظهر و ضاع و كون أبيهما صالحا كل ذلك توطئة و تمهيد لقوله: «فأراد ربك أن يبلغا أشدهما و يستخرجا كنزهما» و قوله: «رحمة من ربك» تعليل للإرادة.

فرحمته تعالى سبب لإرادة بلوغهما و استخراجهما كنزهما، و كان يتوقف على قيام الجدار فأقامه الخضر، و كان سبب انبعاث الرحمة صلاح أبيهما و قد عرض أن مات و أيتم الغلامين و ترك كنزا لهما.

و قد طال البحث في التوفيق بين صلاح أبيهما و وجود كنز لهما تحت الجدار الظاهر في كون أبيهما هو الكانز له بناء على ذم الكنز كما يدل عليه قوله تعالى: «و الذين يكنزون الذهب و الفضة و لا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم»: التوبة: 34.

لكن الآية لا تتعرض بأكثر من أن تحته كنز لهما من غير دلالة على أن أباهما هو الذي دفنه و كنزه، على أن وصف أبيهما بالصلاح دليل على كون هذا الكنز أيا ما كان أمرا غير مذموم على تقدير تسليم كون الكانز هو الأب، على أن من الجائز أن يكون أبوهما الصالح كنزه لهما لتأويل يسوغه فما هو بأعظم من خرق السفينة و قتل النفس المحترمة الواردين في القصة و قد جوزهما التأويل بأمر إلهي و هنا بعض روايات ستوافيك في البحث الروائي الآتي إن شاء الله.

و في الآية دلالة على أن صلاح الإنسان ربما ورث أولاده أثرا جميلا و أعقب فيهم السعادة و الخير فهذه الآية في جانب الخير نظيرة قوله تعالى: «و ليخش الذين لو تركوا من بعدهم ذرية ضعافا خافوا عليهم»: النساء: 9.

و قوله: «و ما فعلته عن أمري» كناية عن أنه إنما فعل ما فعل عن أمر غيره و هو الله سبحانه لا عن أمر أمرته به نفسه.

و قوله: «ذلك تأويل ما لم تسطع عليه صبرا» أي ما لم تستطع عليه صبرا من اسطاع يسطيع بمعنى استطاع يستطيع و قد تقدم في أول تفسير سورة آل عمران أن التأويل في عرف القرآن هي الحقيقة التي يتضمنها الشيء و يؤول إليها و يبتني عليها كتأويل الرؤيا و هو تعبيرها، و تأويل الحكم و هو ملاكه و تأويل الفعل و هو مصلحته و غايته الحقيقية، و تأويل الواقعة و هو علتها الواقعية و هكذا.

فقوله: «ذلك تأويل ما لم تسطع» إلخ إشارة منه إلى أن الذي ذكره للوقائع الثلاث و أعماله فيها هو السبب الحقيقي لها لا ما حسبه موسى من العناوين المترائية من أعماله كالتسبب إلى هلاك الناس في خرق السفينة و القتل من غير سبب موجب في قتل الغلام و سوء تدبير المعاش في إقامة الجدار.

و ذكر بعضهم: أن من الأدب الجميل الذي استعمله الخضر مع ربه في كلامه أن ما كان من الأعمال التي لا تخلو عن نقص ما نسبه إلى نفسه كقوله: فأردت أن أعيبها و ما جاز انتسابه إلى ربه و إلى نفسه أتى فيه بصيغة المتكلم مع الغير كقوله: «فأردنا أن يبدلهما ربهما»، «فخشينا» و ما يختص به تعالى لتعلقه بربوبيته و تدبيره ملكه نسبه إليه كقوله: «فأراد ربك أن يبلغا أشدهما».

بحث تاريخي في فصلين

1 - قصة موسى و الخضر في القرآن:

أوحى الله سبحانه إلى موسى أن هناك عبدا من عباده عنده من العلم ما ليس عند موسى و أخبره أنه إن انطلق إلى مجمع البحرين وجده هناك، و هو بالمكان الذي يحيى فيه الحوت الميت.

أو يفتقد فيه الحوت.

فعزم موسى أن يلقى العالم و يتعلم منه بعض ما عنده إن أمكن و أخبر فتاه عما عزم عليه فخرجا قاصدين مجمع البحرين و قد حملا معهما حوتا ميتا و ذهبا حتى بلغا مجمع البحرين و قد تعبا و كانت هناك صخرة على شاطىء البحر فأويا إليها ليستريحا هنيئة و قد نسيا حوتهما و هما في شغل منه.

و إذا بالحوت اضطرب و وقع في البحر حيا، أو وقع فيه و هو ميت، و غار فيه و الفتى يشاهده و يتعجب من أمره غير أنه نسي أن يذكره لموسى حتى تركا الموضع و انطلقا حتى جاوزا مجمع البحرين و قد نصبا فقال له موسى: آتنا غداءنا لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا.

فذكر الفتى ما شاهده من أمر الحوت و قال لموسى: إنا إذ أوينا إلى الصخرة حي الحوت و وقع في البحر يسبح فيه حتى غار و كنت أريد أن أذكر لك أمره لكن الشيطان أنسانيه أو إني نسيت الحوت عند الصخرة فوقع في البحر و غار فيه.

قال موسى: ذلك ما كنا نبغي و نطلب فلنرجع إلى هناك فارتدا على آثارهما قصصا فوجدا عبدا من عباد الله آتاه الله رحمة من عنده و علمه علما من لدنه فعرض عليه موسى و سأله أن يتبعه فيعلمه شيئا ذا رشد مما علمه الله.

قال العالم: إنك لن تستطيع معي صبرا على ما تشاهده من أعمالي التي لا علم لك بتأويلها، و كيف تصبر على ما لم تحط به خبرا؟ فوعده موسى أن يصبر و لا يعصيه في أمر إن شاء الله فقال له العالم بانيا على ما طلبه منه و وعده به: فإن اتبعتني فلا تسألني عن شيء حتى أحدث لك منه ذكرا.

فانطلق موسى و العالم حتى ركبا سفينة و فيها ناس من الركاب و موسى خالي الذهن عما في قصد العالم فخرق العالم السفينة خرقا لا يؤمن معه الغرق فأدهش ذلك موسى و أنساه ما وعده فقال للعالم: أ خرقتها لتغرق أهلها لقد جئت شيئا إمرا قال له العالم: أ لم أقل إنك لن تستطيع معي صبرا؟ فاعتذر إليه موسى بأنه نسي ما وعده من الصبر قائلا: لا تؤاخذني بما نسيت و لا ترهقني من أمري عسرا.

فانطلقا فلقيا غلاما فقتله العالم فلم يملك موسى نفسه دون أن تغير و أنكر عليه ذلك قائلا: أ قتلت نفسا زكية بغير نفس؟ لقد جئت شيئا نكرا.

قال له العالم ثانيا: أ لم أقل لك إنك لن تستطيع معي صبرا؟ فلم يكن عند موسى ما يعتذر به و يمتنع به عن مفارقته و نفسه غير راضية بها فاستدعى منه مصاحبة مؤجلة بسؤال آخر إن أتى به كان له فراقه و استمهله قائلا: إن سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني قد بلغت من لدني عذرا و قبله العالم.

فانطلقا حتى أتيا قرية و قد بلغ بهما الجوع فاستطعما أهلها فلم يضيفهما أحد منهم و إذا بجدار فيها يريد أن ينقض و يتحذر منه الناس فأقامه العالم.

قال له موسى: لو شئت لتخذت على عملك منهم أجرا فتوسلنا به إلى سد الجوع فنحن في حاجة إليه و القوم لا يضيفوننا.

فقال له العالم: هذا فراق بيني و بينك سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبرا ثم قال: أما السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر و يتعيشون بها و كان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصبا فخرقتها لتكون معيبة لا يرغب فيها.

و أما الغلام فكان كافرا و كان أبواه مؤمنين، و لو أنه عاش لأرهقهما بكفره و طغيانه فشملتهما الرحمة الإلهية فأمرني أن أقتله ليبدلهما ولدا خيرا منه زكاة و أقرب رحما فقتلته.

و أما الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة و كان تحته كنز لهما و كان أبوهما صالحا فشملتهما الرحمة الإلهية لصلاح أبيهما فأمرني أن أقيمه فيستقيم حتى يبلغا أشدهما و يستخرجا كنزهما و لو انقض لظهر أمر الكنز و انتهبه الناس.

قال: و ما فعلت الذي فعلت عن أمري بل عن أمر من الله، و تأويلها ما أنبأتك به ثم فارق موسى.

2 - قصة الخضر (عليه السلام)

- لم يرد ذكره في القرآن إلا ما في قصة رحلة موسى إلى مجمع البحرين، و لا ذكر شيء من جوامع أوصافه إلا ما في قوله تعالى.

«فوجدا عبدا من عبادنا آتيناه رحمة من عندنا و علمناه من لدنا علما»: الآية - 65 من السورة و الذي يتحصل من الروايات النبوية أو الواردة من طرق أئمة أهل البيت في قصته ففي رواية 1 محمد بن عمارة عن الصادق (عليه السلام): أن الخضر كان نبيا مرسلا بعثه الله تبارك و تعالى إلى قومه فدعاهم إلى توحيده و الإقرار بأنبيائه و رسله و كتبه، و كان آيته أنه لا يجلس على خشبة يابسة و لا أرض بيضاء إلا أزهرت خضراء و إنما سمي خضرا لذلك، و كان اسمه تاليا بن مالك بن عابر بن أرفخشد بن سام بن نوح الحديث و يؤيد ما ذكر من وجه تسميته ما في الدر المنثور، عن عدة من أرباب الجوامع عن ابن عباس و أبي هريرة عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: إنما سمي الخضر خضرا لأنه صلى على فروة بيضاء فاهتزت خضراء.

و في بعض الأخبار كما فيما رواه العياشي عن بريد عن أحدهما (عليهما السلام): الخضر و ذو القرنين كانا عالمين و لم يكونا نبيين الحديث لكن الآيات النازلة في قصته مع موسى لا تخلو عن ظهور في كونه نبيا كيف؟ و فيها نزول الحكم عليه.

و يظهر من أخبار متفرقة عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) أنه حي لم يمت بعد و ليس بعزيز على الله سبحانه أن يعمر بعض عباده عمرا طويلا إلى أمد بعيد و لا أن هناك برهانا عقليا يدل على استحالة ذلك.

و قد ورد في سبب ذلك في بعض الروايات 1 من طرق العامة أنه ابن آدم لصلبه و نسىء له في أجله حتى يكذب الدجال، و في بعضها 2 أن آدم (عليه السلام) دعا له بالبقاء إلى يوم القيامة، و في عدة روايات من طرق الفريقين أنه شرب من عين الحياة التي هي في الظلمات حين دخلها ذو القرنين في طلبها و كان الخضر في مقدمته فرزقه الخضر و لم يرزقه ذو القرنين، و هذه و أمثالها آحاد غير قطعية من الأخبار لا سبيل إلى تصحيحها بكتاب أو سنة قطعية أو عقل.

و قد كثرت القصص و الحكايات و كذا الروايات في الخضر بما لا يعول عليها ذو لب كرواية خصيف: 3 أربعة من الأنبياء أحياء اثنان في السماء: عيسى و إدريس، و اثنان في الأرض الخضر و إلياس فأما الخضر فإنه في البحر و أما صاحبه فإنه في البر.

و رواية 4 العقيلي عن كعب قال: الخضر على منبر بين البحر الأعلى و البحر الأسفل، و قد أمرت دواب البحر أن تسمع له و تطيع، و تعرض عليه الأرواح غدوة و عشية.

يتبع...

العودة إلى القائمة

التالي