الميزان في تفسير القرآن |
سورة الكهف |
9 - 26 |
تابع |
||
و هذا أوان أن يعثر الله سبحانه الناس عليهم فإن القوم الذين اعتزلوهم و فارقوهم يوم دخلوا الكهف قد انقرضوا و ذهب الله بهم و بملكهم و ملتهم و جاء بقوم آخرين الغلبة فيهم لأهل التوحيد و السلطان و قد اختلفوا أعني أهل التوحيد و غيرهم في أمر المعاد فأراد الله سبحانه أن يظهر لهم آية في ذلك فأعثرهم على أصحاب الكهف. فخرج المبعوث من الفتية و أتى المدينة و هو يظن أنها التي فارقها البارحة لكنه وجد المدينة قد تغيرت بما لا يعهد مثله في يوم و لا في عمر و الناس غير الناس و الأوضاع و الأحوال غير ما كان يشاهده بالأمس فلم يزل على حيرة من الأمر حتى أراد أن يشتري طعاما بما عنده من الورق و هي يومئذ من الورق الرائجة قبل ثلاثة قرون فأخذت المشاجرة فيها و لم تلبث دون أن كشفت عن أمر عجيب و هو أن الفتى ممن كانوا يعيشون هناك قبل ذلك بثلاثة قرون، و هو أحد الفتية كانوا في مجتمع مشرك ظالم فهجروا الوطن و اعتزلوا الناس صونا لإيمانهم و دخلوا الكهف فأنامهم الله هذا الدهر الطويل ثم بعثهم، و ها هم الآن في الكهف في انتظار هذا الذي بعثوه إلى المدينة ليشتري لهم طعاما يتغذون به. فشاع الخبر في المدينة لساعته و اجتمع جم غفير من أهلها فساروا إلى الكهف و معهم الفتى المبعوث من أصحاب الكهف فشاهدوا ما فيه تصديق الفتى فيما أخبرهم من نبإ رفقته و ظهرت لهم الآية الإلهية في أمر المعاد. و لم يلبث أصحاب الكهف بعد بعثهم كثيرا دون أن توفاهم الله سبحانه و عند ذلك اختلف المجتمعون على باب الكهف من أهل المدينة ثانيا فقال المشركون منهم: ابنوا عليهم بنيانا ربهم أعلم بهم قال الذين غلبوا على أمرهم و هم الموحدون لنتخذن عليهم مسجدا. 3 - القصة عند غير المسلمين: معظم أهل الرواية و التاريخ على أن القصة وقعت في الفترة بين النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و بين المسيح (عليه السلام) و لذلك لم يرد ذكرها في كتب العهدين و لم يعتوره اليهود و إن اشتملت عدة من الروايات على أن قريشا تلقت القصة من اليهود، و إنما اهتم بها النصارى و اعتوروها قديما و حديثا، و ما نقل عنهم في القصة قريب مما أورده ابن إسحاق في العرائس، عن ابن عباس غير أنهم يختلف رواياتهم عن روايات المسلمين في أمور:. أحدها: أن المصادر السريانية تذكر عدد أصحاب الكهف ثمانية في حين يذكره المسلمون و كذا المصادر اليونانية و الغربية سبعة. ثانيها: أن قصتهم خالية من ذكر كلب أصحاب الكهف. ثالثها: أنهم ذكروا أن مدة لبث أصحاب الكهف فيه مائتا سنة أو أقل و المسلمون يذكر معظمهم أنه ثلاثمائة و تسع سنين على ما هو ظاهر القرآن الكريم و السبب في تحديدهم ذلك أنهم ذكروا أن الطاغية الذي كان يجبر الناس على عبادة الأصنام و قد هرب منه الفتية هو دقيوس الملك 449 - 451 و قد استيقظ أهل الكهف على ما ذكروا سنة 435 م أو سنة 437 أو سنة 439 م فلا يبقى للبثهم في الكهف إلا مائتا سنة أو أقل و أول من ذكره من مؤرخهم على ما يذكر هو «جيمس» الساروغي السرياني الذي ولد سنة 451 م و مات سنة 521 م ثم أخذ عنه الآخرون و للكلام تتمة ستوافيك. 4 - أين كهف أصحاب الكهف؟ عثر في مختلف بقاع الأرض على عدة من الكهوف و الغيران و على جدرانها تماثيل رجال ثلاثة أو خمسة أو سبعة و معهم كلب و في بعضها بين أيديهم قربان يقربونه، و يتمثل عند الإنسان المطلع عليها قصص أصحاب الكهف و يقرب من الظن أن هذه النقوش و التماثيل إشارة إلى قصة الفتية و أنها انتشرت و ذاعت بعد وقوعها في الأقطار فأخذت ذكرى يتذكر بها الرهبان و المتجردون للعبادة في هذه الكهوف. و أما الكهف الذي التجأ إليه و استخفى فيه أهل الكهف فجرى عليهم ما جرى فالناس فيه في اختلاف و قد ادعي ذلك في عدة مواضع. أحدها: كهف إفسوس و إفسوس 1 هذا مدينة خربة أثرية واقعة في تركيا على مسافة 73 كيلو مترا من بلدة إزمير، و الكهف على مساحة كيلو متر واحد أو أقل من إفسوس بقرب قرية «اياصولوك» بسفح جبل «ينايرداغ». و هو كهف وسيع فيه - على ما يقال - مات من القبور مبنية من الطوب و هو في سفح الجبل و بابه متجه نحو الجهة الشمالية الشرقية و ليس عنده أثر من مسجد أو صومعة أو كنيسة، و هذا الكهف هو الأعرف عند النصارى، و قد ورد ذكره في عدة من روايات المسلمين. و هذا الكهف على الرغم من شهرته البالغة - لا ينطبق عليه ما ورد في الكتاب العزيز من المشخصات. أما أولا: فقد قال تعالى: «و ترى الشمس إذا طلعت تزاور عن كهفهم ذات اليمين و إذا غربت تقرضهم ذات الشمال» و هو صريح في أن الشمس يقع شعاعها عند الطلوع على جهة اليمين من الكهف و عند الغروب على الجانب الشمالي منه، و يلزمه أن يواجه باب الكهف جهة الجنوب، و باب الكهف الذي في إفسوس متجه نحو الشمال الشرقي. و هذا الأمر أعني كون باب كهف إفسوس متجها نحو الشمال و ما ورد من مشخص إصابة الشمس منه طلوعا و غروبا هو الذي دعا المفسرين إلى أن يعتبروا يمين الكهف و يساره بالنسبة إلى الداخل فيه لا الخارج منه مع أنه المعروف المعمول - كما تقدم في تفسير الآية - قال البيضاوي في تفسيره،: إن باب الكهف في مقابلة بنات النعش، و أقرب المشارق و المغارب إلى محاذاته مشرق رأس السرطان و مغربه و الشمس إذا كان مدارها مداره تطلع مائلة عنه مقابلة لجانبه الأيمن و هو الذي يلي المغرب، و تغرب محاذية لجانبه الأيسر فيقع شعاعها على جانبه و يحلل عفونته و يعدل هواءه و لا يقع عليهم فيؤذي أجسادهم و يبلي ثيابهم. انتهى و نحو منه ما ذكره غيره. على أن مقابلة الباب للشمال الشرقي لا للقطب الشمالي و بنات النعش كما ذكروه تستلزم عدم انطباق الوصف حتى على الاعتبار الذي اعتبروه فإن شعاع الشمس حينئذ يقع على الجانب الغربي الذي يلي الباب عند طلوعها و أما عند الغروب فالباب و ما حوله مغمور تحت الظل و قد زال الشعاع بعيد زوال الشمس و انبسط الظل. اللهم إلا أن يدعى أن المراد بقوله: «و إذا غربت تقرضهم ذات الشمال» عدم وقوع الشعاع أو وقوعه خلفهم لا على يسارهم هذا. و أما ثانيا: فلأن قوله تعالى: «و هم في فجوة منه» أي في مرتفع منه و لا فجوة في كهف إفسوس - على ما يقال - و هذا مبني على كون الفجوة بمعنى المرتفع و هو غير مسلم و قد تقدم أنها بمعنى الساحة. و أما ثالثا: فلأن قوله تعالى: «قال الذين غلبوا على أمرهم لنتخذن عليهم مسجدا» ظاهر في أنهم بنوا على الكهف مسجدا، و لا أثر عند كهف إفسوس من مسجد أو صومعة أو نحوهما و أقرب ما هناك كنيسة على مسافة ثلاث كيلو مترات تقريبا و لا جهة تربطها بالكهف أصلا. على أنه ليس هناك شيء من رقيم أو كتابة أو أمر آخر يشهد و لو بعض الشهادة على كون بعض هاتيك القبور و هي مآت هي قبور أصحاب الكهف أو أنهم لبثوا هناك صفة من الدهر راقدين ثم بعثهم الله ثم توفاهم. الكهف الثاني: كهف رجيب و هذا الكهف واقع على مسافة ثمانية كيلو مترات من مدينة عمان عاصمة الأردن بالقرب من قرية تسمى رجيب و الكهف في جبل محفورا على الصخرة في السفح الجنوبي منه، و أطرافه من الجانبين الشرقي و الغربي مفتوحة يقع عليه شعاع الشمس منها، و باب الكهف يقابل جهة الجنوب و في داخل الكهف صفة صغيرة تقرب من ثلاثة أمتار في مترين و نصف على جانب من سطح الكهف المعادل لثلاثة في ثلاثة تقريبا و في الغار عدة قبور على هيئة النواويس البيزنطية كأنها ثمانية أو سبعة. و على الجدران نقوش و خطوط باليوناني القديم و الثمودي منمحية لا تقرأ و أيضا صورة كلب مصبوغة بالحمرة و زخارف و تزويقات أخرى. و فوق الغار آثار صومعة بيزنطية تدل النقود و الآثار الأخرى المكتشفة فيها على كونها مبنية في زمان الملك جوستينوس الأول 418 427 و آثار أخرى على أن الصومعة بدلت ثانيا بعد استيلاء المسلمين على الأرض مسجدا إسلاميا مشتملا على المحراب و المأذنة و الميضاة، و في الساحة المقابلة لباب الكهف آثار مسجد آخر بناه المسلمون في صدر الإسلام ثم عمروها و شيدوها مرة بعد مرة، و هو مبني على أنقاض كنيسة بيزنطية كما أن المسجد الذي فوق الكهف كذلك. و كان هذا الكهف - على الرغم من اهتمام الناس بشأنه و عنايتهم بأمره كما يكشف عنه الآثار - متروكا منسيا و بمرور الزمان خربة و ردما متهدما حتى اهتمت دائرة الآثار الأردنية أخيرا 1 بالحفر و التنقيب فيه فاكتشفته فظهر ثانيا بعد خفائه قرونا، و قامت عدة من الأمارات و الشواهد الأثرية على كونه هو كهف أصحاب الكهف المذكورين في القرآن. و قد ورد كون كهف أصحاب الكهف بعمان في بعض روايات المسلمين كما أشرنا إليه فيما تقدم و ذكره الياقوت في معجم البلدان و أن الرقيم اسم قرية بالقرب من عمان كان فيها قصر ليزيد بن عبد الملك و قصر آخر في قرية أخرى قريبة منها تسمى الموقر و إليهما يشير الشاعر بقوله: يزرن على تنانيه يزيدا. بأكناف الموقر و الرقيم. و بلدة عمان أيضا مبنية في موضع مدينة «فيلادلفيا» التي كانت من أشهر مدن عصرها و أجملها قبل ظهور الدعوة الإسلامية و كانت هي و ما والاها تحت استيلاء الروم منذ أوائل القرن الثاني الميلاد حتى فتح المسلمون الأرض المقدسة. و الحق أن مشخصات كهف أهل الكهف أوضح انطباقا على هذا الكهف من غيره. و الكهف الثالث: كهف بجبل قاسيون بالقرب من الصالحية بدمشق الشام ينسب إلى أصحاب الكهف. و الكهف الرابع: كهف بالبتراء من بلاد فلسطين ينسبونه إلى أصحاب الكهف. و الكهف الخامس: كهف اكتشف - على ما قيل - في شبه جزيرة إسكاندنافية من الأوربة الشمالية عثروا فيه على سبع جثث غير بالية على هيئة الرومانيين يظن أنهم الفتية أصحاب الكهف. و ربما يذكر بعض كهوف أخر منسوب إلى أصحاب الكهف كما يذكر أن بالقرب من بلدة نخجوان من بلاد قفقاز كهفا يعتقد أهل تلك النواحي أنه كهف أصحاب الكهف و كان الناس يقصدونه و يزورونه. و لا شاهد يشهد على كون شيء من هذه الكهوف هو الكهف المذكور في القرآن الكريم. على أن المصادر التاريخية تكذب الأخيرين إذ القصة على أي حال قصة رومانية، و سلطتهم حتى في أيام مجدهم و سؤددهم لم تبلغ هذه النواحي نواحي أوربة الشمالية و قفقاز. |
||