الميزان في تفسير القرآن

سورة النحل

112 - 128

وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ (112) وَلَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِّنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ (113) فَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالاً طَيِّبًا وَاشْكُرُواْ نِعْمَتَ اللَّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (114) إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (115) وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُواْ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ (116) مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (117) وَعَلَى الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِن قَبْلُ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (118) ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُواْ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُواْ مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُواْ إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ (119) إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (120) شَاكِرًا لِّأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (121) وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (122) ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (123) إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (124) ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (125) وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرِينَ (126) وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللَّهِ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلاَ تَكُ فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ (127) إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ (128)

بيان

تتمة آيات الأحكام السابقة تذكر فيها محرمات الأكل و محللاته و نهي عن التحليل و التحريم ابتداعا بغير إذن الله و ذكر بعض ما شرع لليهود من الأحكام التي نسخت بعد، و في ذلك عطف على ما تقدم من حديث النسخ في قوله: «و إذا بدلنا آية مكان آية» و إشارة إلى أن ما أنزل على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إنما هو دين إبراهيم (عليه السلام) المبني على الاعتدال و التوحيد مرفوعا عنه ما في دين اليهود من التشديد عليهم قبال ظلمهم.

و في آخرها أمر بالعدل في المعاقبة و ندب إلى الصبر و الاحتساب، و وعد جميل بالنصرة و الكفاية إن اتقوا و أحسنوا.

قوله تعالى: «ضرب الله مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا» إلى آخر الآية، الرغد من العيش هو الواسع الطيب.

هذا مثل ضربه الله تعالى فوصف فيه قرية آتاها ما تحتاج إليه من نعم الحياة، و أتم ذلك كله بنبي بعثه إليهم يدعوهم إلى ما فيه صلاح دنياهم و أخراهم فكفروا بأنعمه و كذبوا رسوله فبدل الله نعمته نقمة و عذبهم بما ظلموا بتكذيب رسوله، و في المثل تحذير عن كفران نعمة الله بعد إذ بذلت و الكفر بآياته بعد إذ أنزل.

و فيه توطئة و تمهيد لما سيذكره من محللات الأكل و محرماته و ينهى عن تشريع الحلال و الحرام بغير إذن الله كل ذلك بالاستفادة من سياق الآيات فإن كل سابقة منها تسوق النظر إلى اللاحقة.

و قيل: إن هذه القرية هي مكة عذبهم الله بالجوع سبع سنين لما كفروا بأنعم الله و قد وسعها عليهم و كذبوا رسوله و قد أرسله إليهم فابتلوا بالقحط و كان يغار عليهم قوافلهم بسخط من الله سبحانه لما دعا عليهم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، ذكره في المجمع، و نسبه إلى ابن عباس و مجاهد و قتادة.

و فيه أن لا إشكال في أنه في نفسه يقبل الانطباق على ما ذكر لكن سياق الآيات إنما يلائم كونه مثلا عاما مذكورا توطئة و تمهيدا لما بيناه.

فقوله: «ضرب الله مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا» وصف القرية بثلاثة أوصاف متعاقبة غير أن الأوسط منها و هي الاطمئنان كالرابط بين الطرفين فإن القرية إذا أمنت المخاطرات كمهاجمة الأشرار و شن الغارات و قتل النفوس و سبي الذراري و نهب الأموال و كذا أمنت الحوادث الطبيعية كالزلازل و غيرها اطمأنت و سكنت فلم يضطر أهلها إلى الجلاء و التفرق.

و من كمال اطمئنانها أن يأتيها رزقها رغدا من كل مكان و لا يلجأ أهلها إلى الاغتراب و قطع الفيافي و ركوب البحار و تحمل المشاق البالغة في طلب الرزق و جلبه إليها.

فاتصاف القرية بصفاتها الثلاث المذكورة: الأمن و الاطمئنان و إتيان رزقها إليها من كل مكان يتم و يكمل لها جميع النعم المادية الصورية، و سيضيف سبحانه إليها النعم المعنوية في الآية التالية: «و لقد جاءهم رسول منهم» فهي قرية أتم الله نعمه عليها و أكملها.

و قوله: «فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع» و الخوف التعبير بأنعم الله و هو جمع قلة للإشارة بها إلى الأصناف المذكورة و هي ثلاثة: الأمن و الاطمئنان و إتيان الرزق، و الإذاقة استعارة للإيصال اليسير فإذاقة الجوع و الخوف مشعر بأن الذي يوصلهما قادر على تضعيف ذلك و تكثيره بما لا يقدر بقدر كيف لا؟ و هو الله الذي له القدرة كلها.

ثم إضافة اللباس إلى الجوع و الخوف و فيها دلالة على الشمول و الإحاطة كما يشمل اللباس البدن، و يحيط به، تشعر بأن هذا المقدار اليسير من الجوع و الخوف الذي أذاقهم شملهم كما يشمل اللباس بدن الإنسان و هو سبحانه قادر على أن يزيد على ذلك فهو المتناهي في قهره و غلبته و هم المتناهون في ذلتهم و هوانهم.

ثم ختم الآية بقوله: «بما كانوا يصنعون» للدلالة على أن سنة المجازاة في الشكر و الكفر قائمة على ساق.

و المعنى: ضرب الله مثلا مثل قرية كان أهلها آمنين من كل شر و سوء يهددهم في نفوسهم و أعراضهم و أموالهم ساكنين غير مضطرين يأتيهم رزقهم طيبا واسعا من كل مكان من غير أن يضطروا إلى السفر و الاغتراب فكفر أهلها بهذه النعم الإلهية و لم يشكروه سبحانه فأنالهم الله شيئا يسيرا من نقمته - بسلب هذه النعم - و هو الجوع و الخوف اللذان عماهم و شملاهم قبال ما استمروا عليه بكفران الأنعم جزاء لكفرانهم.

قوله تعالى: «و لقد جاءهم رسول منهم فكذبوه فأخذهم العذاب و هم ظالمون» و هذا هو النعمة المعنوية التي أضافها إلى نعمة المادية المذكورة، و كان فيها صلاح معاشهم و معادهم و تحذير لهم من الكفران بأنعم الله و شرح ما فيه من الشؤم و الشقاء لكنهم كذبوا رسولهم الذي هو منهم يعرفونه و يدرون أنه إنما يدعوهم لأمر إلهي و يهديهم إلى سبيل الرشاد و سعادة الجد فظلموا ذلك فأخذهم العذاب بظلمهم.

و بهذا التقرير يظهر ما في القيود المأخوذة في الآية من النكات.

قوله تعالى: «فكلوا مما رزقكم الله حلالا طيبا إلى آخر الآية تفريع على ما تحصل من المثل نتيجة، و التقدير إذا كان الحال هذا الحال و كان في كفران هذا الرزق الرغد عذاب و في تكذيب الدعوة عذاب فكلوا مما رزقكم الله حال كونه حلالا طيبا أي لستم بممنوعين منه و أنتم تستطيبونه فكلوا منه و اشكروا نعمة الله إن كنتم إياه تعبدون.

و قد ظهر بذلك: أولا: أن الآية مسوقة لتحليل طيبات الرزق مطلقا فلا سبيل إلى ما ذكره بعضهم أن المراد فكلوا مما رزقكم الله من الغنائم رزقا حلالا طيبا بناء على أن الآية نزلت بعد وقعة بدر و المثل السابق مثل مضروب لأهل مكة، و المراد بالرسول الذي كذبوه هو النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، و بالعذاب الذي أخذهم هو القتل الذريع لصناديدهم يوم بدر.

و هذا كله مما لا دليل عليه من طريق لفظ الآيات.

على أنه قد تأيد سابقا أنها مكية.

و ثانيا: أن المراد بالحل و الطيب كون الرزق بحيث لم يحرم منه الإنسان طبعا و طبعه يستطيبه أي الحل و الطيب بحسب الطبع و ذلك ملاك الحلية الشرعية التي تتبع الحلية بحسب الفطرة فإن الدين فطري لأن الله سبحانه فطر الإنسان مجهزا بجهاز التغذية و جعل أشياء أرضية من الحيوان و النبات ملائمة لقوامه يميل إليها طبعه من غير نفرة فله أن يأكل منها و هو الحل.

و ثالثا: أن قوله: «فكلوا» أمر مقدمي بالنسبة إلى قوله: «و اشكروا» نعمة الله» و ذكر النعمة تلويح إلى سبب الحكم فإن كون الشيء نعمة هو السبب في وجوب الشكر عليه.

و رابعا: أن قوله: «إن كنتم إياه تعبدون» خطاب للمؤمنين فإنهم هم الذين يعبدون الله و لا يعبدون غيره، و القصر في الجملة الذي يدل عليه تقديم المفعول على الفعل قصر القلب، و غيرهم و هم المشركون إنما يعبدون الأصنام و الآلهة من دون الله.

و جعل الخطاب للمشركين و دعوى أن المراد بالعبادة في قوله: «إن كنتم إياه تعبدون» الإطاعة أو أن المعنى إن صح زعمكم أنكم تقصدون بعبادتكم لآلهتكم عبادته تعالى، لا يرجع إلى طائل فإن جعل العبادة بمعنى الإطاعة يحتاج إلى قرينة و لا قرينة و المشركون لا يعبدون الله سبحانه و لو بإشراكه في العبادة و لا يقصدون بعبادة آلهتهم عبادته تعالى بل ينزهونه تعالى عن عبادتهم لكونه أجل من أن يناله إدراك أو ينتهي إليه توجه.

و كون الخطاب في الآية للمؤمنين يوجب كون المثل مضروبا لأجلهم و رجوع سائر الخطابات التشريعية فيما قبل الآية و ما بعدها متوجهة إليهم، و ربما قيل: إن الخطاب لعامة الناس أعم من المؤمن و الكافر و تطبيقه على الآيات لا يخلو من تكلف و إن كان دون تخصيص الخطاب بالمشركين إشكالا.

قوله تعالى: «إنما حرم عليكم الميتة و الدم و لحم الخنزير و ما أهل لغير الله به فمن اضطر غير باغ و لا عاد فإن الله غفور رحيم» تقدم الكلام في معنى الآية في تفسير سورة البقرة الآية 173 و سورة المائدة الآية 3 و سورة الأنعام الآية 145.

و الآية بمعناها على اختلاف ما في لفظها واقعة في أربعة مواضع من القرآن: في سورتي الأنعام و النحل و هما مكيتان من أوائل ما نزلت بمكة و أواخرها، و في سورتي البقرة و المائدة و هما من أوائل ما نزلت بالمدينة و أواخرها، و هي تدل على حصر محرمات الأكل في الأربع المذكورة: الميتة و الدم و لحم الخنزير و ما أهل لغير الله به كما نبه عليه بعضهم.

لكن بالرجوع إلى السنة يظهر أن هذه هي المحرمات الأصلية التي عني بها في الكتاب و ما سوى هذه الأربع من المحرمات مما حرمه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بأمر من ربه و قد قال تعالى: «ما آتاكم الرسول فخذوه و ما نهاكم عنه فانتهوا»: الحشر: 7، و قد تقدم بعض الروايات الدالة على هذا المعنى.

قوله تعالى: «و لا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال و هذا حرام لتفتروا على الله الكذب» إلخ، «ما» في قوله: «لما تصف مصدرية و الكذب مفعول «تصف» أي لا تقولوا هذا حلال و هذا حرام بسبب وصف ألسنتكم لغاية افتراء الكذب على الله.

و كون الخطاب في الآيات للمؤمنين - على ما يؤيده سياقها كما مر - أو لعامة الناس يؤيد أن يكون المراد بقوله: «و لا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال و هذا حرام» النهي عن الابتداع بإدخال حلال أو حرام في الأحكام الجارية في المجتمع المعمولة بينهم من دون أن ينزل به الوحي فإن ذلك من إدخال ما ليس من الدين في الدين و افتراء على الله و إن لم ينسبه واضعه إليه تعالى.

و ذلك أن الدين في عرف القرآن هو سنة الحياة و قد تكرر منه سبحانه قوله: «يصدون عن سبيل الله و يبغونها عوجا» أو ما يقرب منه، فالدين لله و من زاد فيه شيئا فقد نسبه إليه تعالى افتراء عليه و إن سكت عن الإسناد أو نفى ذلك بلسانه.

و ذكر الجمهور أن المراد بالآية النهي عما كان المشركون يحلونه كالميتة و الدم و ما أهل لغير الله به أو يحرمونه كالبحيرة و السائبة و غيرهما و السياق - كما مر - لا يؤيده.

ثم قال سبحانه في مقام تعليل النهي: «إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون» ثم بين حرمانهم من الفلاح بقوله: «متاع قليل و لهم عذاب أليم.

قوله تعالى: «و على الذين هادوا حرمنا ما قصصنا عليك من قبل» إلخ، المراد بقوله: «ما قصصنا عليك من قبل» - كما قيل - ما قصه تعالى على نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) في سورة الأنعام - و قد نزلت قبل سورة النحل بلا إشكال - بقوله: «و على الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر» إلى آخر الآية،: الأنعام: 146.

و الآية في مقام دفع الدخل و فيها عطف على مسألة النسخ المذكورة سابقا كأن قائلا يقول: فإذا كانت محرمات الأكل منحصرة في الأربع المذكورة: الميتة و الدم و لحم الخنزير و ما أهل لغير الله به، و كان ما وراءها حلالا فما هذه الأشياء المحرمة على بني إسرائيل من قبل؟ هل هذا إلا ظلم بهم.

فأجاب عنه بأنا حرمنا عليهم ذلك و ما ظلمناهم في تحريمه و لكنهم كانوا يظلمون أنفسهم فنحرم عليهم بعض الأشياء أي إنه كان محللا لهم مأذونا فيه لكنهم ظلموا أنفسهم و عصوا ربهم فجزيناهم بتحريمه عقوبة كما قال سبحانه في موضع آخر: «فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم» الآية، و لو أنهم بعد ذلك كله رجعوا إلى ربهم و تابوا عن معاصيهم تاب الله عليهم و رفع الحظر عنهم و أذن لهم فيما منعهم عنه إنه لغفور رحيم.

فقد ظهر أن الآية متصلة بما قبلها من حديث التحليل و التحريم، و أنها كالجواب عن سؤال مقدر، و أن ما بعدها من قوله: «ثم إن ربك للذين عملوا السوء» الآية، متصل بها متمم لمضمونها.

قوله تعالى: «ثم إن ربك للذين عملوا السوء بجهالة ثم تابوا من بعد ذلك و أصلحوا إن ربك من بعدها لغفور رحيم» الجهالة و الجهل واحد و هو في الأصل ما يقابل العلم لكن الجهالة كثيرا ما تستعمل بمعنى عدم الانكشاف التام للواقع و إن لم يخل المحل عن علم ما مصحح للتكليف كحال من يقترف المحرمات و هو يعلم بحرمتها لكن الأهواء النفسانية تغلبه و تحمله على المعصية و لا تدعه يتفكر في حقيقة هذه المخالفة و المعصية فله علم بما ارتكب و لذلك يؤاخذ و يعاقب على ما فعل و هو مع ذلك جاهل بحقيقة الأمر و لو تبصر تمام التبصر لم يرتكب.

و المراد بالجهالة في الآية هذا المعنى إذ لو كان المراد هو الأول و كان ما ذكر من عمل السوء مجهولا من حيث حكمه أو من حيث موضوعه لم يكن العمل معصية حتى يحتاج إلى التوبة فالمغفرة و الرحمة.

و الآية - كما تقدمت الإشارة إليه - متصلة بما قبلها متممة لمضمونها، و معنى الآيتين أنا لم نظلم بني إسرائيل في تحريم الطيبات التي حرمناها، لهم بل هم الذين ظلموا أنفسهم حيث ارتكبوا المعاصي و أصروا عليها فأدى ذلك إلى تحريم الطيبات عليهم، و بعد ذلك كله باب المغفرة و الرحمة مفتوح و إن ربك للذين عملوا السوء أي عملوا عملا سوءا و هو السيئة بجهالة ثم تابوا من بعد ذلك و أصلحوا حتى يتبين التوبة و تستقر إن ربك من بعدها أي من بعد التوبة لغفور رحيم.

و في تقييد التوبة أولا بالإصلاح ثم إرجاع الضمير أخيرا إليها وحدها في قوله: «إن ربك من بعدها لغفور» دلالة على أن شمول المغفرة و الرحمة من تبعات التوبة، و أما الإصلاح فإنما هو لتبيين التوبة و ظهور كونها توبة حقيقية و رجوعا جديا لا مجرد صورة خالية عن المعنى.

و قوله في ذيل الآية: «إن ربك من بعدها» تلخيص لتفصيل قوله في صدرها: «إن ربك للذين» إلخ، و فائدته حفظ فهم السامع عن التشوش و الضلال و إبراز العناية ببعدية المغفرة و الرحمة بالنسبة إلى التوبة نظير ما مر من قوله: «ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا ثم جاهدوا و صبروا إن ربك من بعدها لغفور رحيم».

قوله تعالى: «إن إبراهيم كان أمة قانتا لله حنيفا و لم يك من المشركين» الآية، و ما يتلوها على اتصالها بما تقدم من حصر محرمات الأكل في الأربع و تحليل ما وراءها، و هذه الآية إلى تمام أربع آيات بمنزلة التفصيل لما تقدمها كأنه قيل: هذا حال ملة موسى التي حرمنا فيها على بني إسرائيل بعض ما أحل لهم من الطيبات، و أما هذه الملة التي أنزلناها إليك فإنما هي الملة التي تحقق بها إبراهيم فاجتباه الله و هداه إلى صراط مستقيم و أصلح بها دنياه و آخرته، و هي ملة معتدلة جارية على الفطرة تحلل الطيبات و تحرم الخبائث يجلب العمل بها من الخير ما جلبه لإبراهيم (عليه السلام) منه.

فقوله: «إن إبراهيم كان أمة» قال في المفردات، و قوله: «إن إبراهيم كان أمة قانتا لله» أي قائما مقام جماعة في عبادة الله نحو قولهم: فلان في نفسه قبيلة، انتهى.

و هو قريب مما نقل عن ابن عباس، و قيل: معناه الإمام المقتدى به، و قيل: إنه كان أمة منحصرة في واحد مدة من الزمان لم يكن على الأرض موحد يوحد الله غيره.

و قوله: «قانتا لله حنيفا و لم يك من المشركين» القنوت: الإطاعة و العبادة أو دوامها، و الحنف: الميل من الطرفين إلى حاق الوسط و هو الاعتدال.

قوله تعالى: «شاكرا لأنعمه اجتباه و هداه إلى صراط مستقيم» الاجتباء من الجباية و هو الجمع و اجتباء الله الإنسان هو إخلاصه لنفسه و جمعه من التفرق في المذاهب المختلفة.

و في تعقيب قوله: «شاكرا لأنعمه» بقوله: «اجتباه» إلخ، مفصولا إشعار بالعلية و ذلك يؤيد ما تقدم في سورة الأعراف في تفسير قوله: «و لا تجد أكثرهم شاكرين»: الأعراف: 17، أن حقيقة الشكر هو الإخلاص في العبودية.

قوله تعالى: «و آتيناه في الدنيا حسنة و إنه في الآخرة لمن الصالحين» الحسنة هي المعيشة الحسنة فقد كان (عليه السلام) ذا مال كثير و مروة عظيمة.

و قد بسطنا الكلام في معنى الاجتباء في تفسير سورة يوسف عند الآية 6، و في معنى الهداية و الصراط المستقيم في تفسير الفاتحة عند قوله: «اهدنا الصراط المستقيم»: الآية - 6، و في معنى قوله: «و إنه في الآخرة لمن الصالحين»: البقرة: 130، فراجع.

و في توصيفه تعالى إبراهيم (عليه السلام) بما وصفه من الصفات إشارة إلى أنها من مواهب هذا الدين الحنيف، فإن انتحل به الإنسان ساقه إلى ما ساق إليه إبراهيم (عليه السلام).

قوله تعالى: «ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا و ما كان من المشركين» تكرار اتصافه بالحنف و نفي الشرك لمزيد العناية به.

يتبع...

العودة إلى القائمة

التالي