الميزان في تفسير القرآن

سورة الرعد

36 - 42

تابع
وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الأَحْزَابِ مَن يُنكِرُ بَعْضَهُ قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآبِ (36) وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم بَعْدَ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ وَاقٍ (37) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِّن قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ (38) يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاء وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ (39) وَإِن مَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ (40) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَاللَّهُ يَحْكُمُ لاَ مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (41) وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعًا يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ (42)

أي و قد مكر الذين من قبلهم فلم ينفعهم مكرهم و لم يقدروا على صدنا من أن نأتي الأرض فننقصها من أطرافها فالله سبحانه يملك المكر كله و يبطله و يرده إلى أهله فليعتبروا.

و قوله: «يعلم ما تكسب كل نفس» في مقام التعليل لملكه تعالى كل مكر فإن المكر إنما يتم مع جهل الممكور به و أما إذا علم به فعنده بطلانه.

و قوله: «و سيعلم الكفار لمن عقبى الدار قطع للحجاج بدعوى أن مسألة انتهاء الأمور إلى عواقبها من الأمور الضرورية العينية لا تتخلف عن الوقوع و سيشهدونها شهود عيان فلا حاجة إلى الإطالة و الإطناب في إعلامهم ذلك فسيعلمون.

بحث روائي

في الدر المنثور، أخرج ابن أبي شيبة و ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم عن مجاهد قال: قالت قريش حين أنزل: «و ما كان لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن الله»: ما نراك يا محمد تملك من شيء و لقد فرغ من الأمر فأنزلت هذه الآية تخويفا لهم و وعيدا لهم «يمحوا الله ما يشاء و يثبت» إنا إن شئنا أحدثنا له من أمرنا ما شئنا.

أقول: و الآية كما تقدم بيانه أجنبية عن هذا المعنى، و في ذيل هذا الحديث و يحدث الله في كل رمضان فيمحو الله ما يشاء و يثبت من أرزاق الناس و مصائبهم و ما يعطيهم و ما يقسم لهم، و في رواية أخرى عن جابر عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): في الآية: قال: يمحو من الرزق و يزيد فيه، و يمحو من الأجل و يزيد فيه.

و هذا من قبيل التمثيل و الآية أعم.

و فيه، أخرج ابن مردويه عن ابن عباس: أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) سئل عن قوله: «يمحوا الله ما يشاء و يثبت» قال: ذلك كل ليلة القدر يرفع و يخفض و يرزق غير الحياة و الموت و الشقاوة و السعادة فإن ذلك لا يزول.

أقول: و الرواية على معارضتها الروايات الكثيرة جدا المأثورة عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و أئمة أهل البيت (عليهم السلام) و الصحابة تخالف إطلاق الآية و حجة العقل، و مثلها ما عن ابن عمر عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): يمحو الله ما يشاء و يثبت إلا الشقوة و السعادة و الحياة و الموت و فيه، أخرج ابن مردويه و ابن عساكر عن علي: أنه سأل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عن هذه الآية فقال له: لأقرن عينيك بتفسيرها و لأقرن عين أمتي بعدي بتفسيرها. الصدقة على وجهها و بر الوالدين و اصطناع المعروف يحول الشقاء سعادة و يزيد في العمر و يقي مصارع السوء.

أقول: و الرواية لا تزيد على ذكر بعض مصاديق الآية.

و في الكافي، بإسناده عن هشام بن سالم و حفص بن البختري و غيرهما عن أبي عبد الله (عليه السلام): في هذه الآية: «يمحوا الله ما يشاء و يثبت» قال: فقال: و هل يمحى إلا ما كان ثابتا؟ و هل يثبت إلا ما لم يكن؟: أقول: و رواه العياشي في تفسيره عن جميل عنه (عليه السلام).

و في تفسير العياشي، عن الفضيل بن يسار قال. سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول: من الأمور أمور محتومة كائنة لا محالة و من الأمور أمور موقوفة عند الله يقدم فيها ما يشاء و يمحو ما يشاء و يثبت منها ما يشاء لم يطلع على ذلك أحدا يعني الموقوفة فأما ما جاءت به الرسل فهي كائنة لا يكذب نفسه و لا نبيه و لا ملائكته.

أقول: و روي بطريق آخر و كذا في الكافي بإسناده عن الفضيل عنه (عليه السلام) ما في معناه.

و فيه، عن زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: كان علي بن الحسين (عليهما السلام) يقول: لو لا آية في كتاب الله لحدثتكم بما كان و بما يكون إلى يوم القيامة فقلت له. أية آية؟ فقال: قال الله: «يمحوا الله ما يشاء و يثبت و عنده أم الكتاب».

أقول: معناه أن اللائح من الآية أن الله سبحانه لا يريد من خلقه إلا أن يعيشوا على جهل بالحوادث المستقبلة ليقوموا بواجب حياتهم بهداية من الأسباب العادية و سياقة من الخوف و الرجاء، و ظهور الحوادث المستقبلة تمام ظهورها يفسد هذه الغاية الإلهية فهو سبب الكف عن التحديث لا الخوف من أن يكذبه الله بالبداء فإنه مأمون منه فلا تعارض بين الرواية و ما قبلها.

و فيه، عن الفضيل بن يسار عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن الله تبارك و تعالى كتب كتابا فيه ما كان و ما هو كائن فوضعه بين يديه فما شاء منه قدم و ما شاء منه أخر و ما شاء منه محى و ما شاء منه كان و ما لم يشأ لم يكن.

و فيه، عن ابن سنان عن أبي عبد الله (عليه السلام) يقول: إن الله يقدم ما يشاء و يؤخر ما يشاء و يمحو ما يشاء و يثبت ما يشاء و عنده أم الكتاب، و قال: كل أمر يريده الله فهو في علمه قبل أن يضعه، و ليس شيء يبدو له إلا و قد كان في علمه أن الله لا يبدو له من جهل.

أقول: و الروايات في البداء عنهم (عليهم السلام) متكاثرة مستفيضة فلا يعبأ بما نقل عن بعضهم أنه خبر واحد.

و الرواية كما ترى تنفي البداء بمعنى علمه تعالى ثانيا بما كان جاهلا به أولا بمعنى تغير علمه في ذاته كما ربما يتفق فينا تعالى عن ذلك، و إنما هو ظهور أمر منه تعالى ثانيا بعد ما كان الظاهر منه خلافه أولا فهو محو الأول و إثبات الثاني و الله سبحانه عالم بهما جميعا.

و هذا مما لا يسع لذي لب إنكاره فإن للأمور و الحوادث وجودا بحسب ما تقتضيه أسبابها الناقصة من علة أو شرط أو مانع ربما تخلف عنه، و وجودا بحسب ما تقتضيه أسبابها و عللها التامة و هو ثابت غير موقوف و لا متخلف، و الكتابان أعني كتاب المحو و الإثبات و أم الكتاب إما أن يكونا أمرين تتبعهما هاتان المرحلتان من وجود الأشياء اللتان إحداهما تقبل المحو و الإثبات و الأخرى لا تقبل إلا الثبات.

و إما أن يكونا عين تينك المرحلتين، و على أي حال ظهور أمر أو إرادة منه تعالى بعد ما كان الظاهر خلافه واضح لا ينبغي الشك فيه.

و الذي أحسب أن النزاع في ثبوت البداء كما يظهر من أحاديث أئمة أهل البيت (عليهم السلام) و نفيه كما يظهر من غيرهم نزاع لفظي و لهذا لم نعقد لهذا البحث فصلا مستقلا على ما هو دأب الكتاب و من الدليل على كون النزاع لفظيا استدلالهم على نفي البداء عنه تعالى بأنه يستلزم التغير في علمه مع أنه لازم البداء بالمعنى الذي يفسر به البداء فينا لا البداء بالمعنى الذي يفسره به الأخبار فيه تعالى.

و في الدر المنثور، أخرج الحاكم عن أبي الدرداء: أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قرأ «يمحوا الله ما يشاء و يثبت» مخففة.

و فيه، أخرج ابن مردويه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): في قوله: «ننقصها من أطرافها» قال: ذهاب العلماء.

و في المجمع، عن أبي عبد الله (عليه السلام): ننقصها بذهاب علمائها و فقهائها و أخيارها.

و في الكافي، بإسناده عن محمد بن علي عمن ذكره عن جابر عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: كان علي بن الحسين (عليهما السلام) يقول: إنه ليسخي نفسي في سرعة الموت أو القتل فينا قول الله عز و جل: «أ و لم يروا أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها» فقال: فقد العلماء.

أقول: كأن المراد أنه يسخي نفسي أن الله تعالى نسب توفي العلماء إلى نفسه لا إلى غيره فيهنأ لي الموت أو القتل.

العودة إلى القائمة

التالي