الميزان في تفسير القرآن |
سورة الرعد |
36 - 42 |
تابع |
||
و هو أن سنة الله الجارية في الرسل أن يكونوا بشرا جارين على السنة المألوفة بين الناس من غير أن يتعدوها فيملكوا شيئا مما يختص بالغيب كأن يكونوا ذا قوة غيبية فعالة لما تشاء قديرة على كل ما أرادت أو أريد منها حتى تأتي بكل آية شاءت إلا أن يأذن الله له فليس للرسول و هو بشر كسائرهم من الأمر شيء بل لله الأمر جميعا. فهو الذي ينزل الآية إن شاء غير أنه سبحانه إنما ينزل من الآيات إذا اقتضته الحكمة الإلهية و ليست الأوقات مشتركة متساوية في الحكم و المصالح و إلا لبطلت الحكمة و اختل نظام الخليقة بل لكل وقت حكمة تناسبه و حكم يناسبه فلكل وقت آية تخصه. و هذا هو الذي تشير إليه الآية فقوله: «و لقد أرسلنا رسلا من قبلك و جعلنا لهم أزواجا و ذرية» إشارة إلى السنة الجارية في الرسل من البشرية العادية، و قوله: «و ما كان لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن الله» إشارة إلى حرمانهم من القدرة الغيبية المستقلة بكل ما أرادت إلا أن يمدهم الإذن الإلهي. و قوله: «لكل أجل» أي وقت محدود «كتاب» أي حكم مقضي مكتوب يخصه إشارة إلى ما يلوح إليه استثناء الإذن و سنة الله الجارية فيه، و التقدير فالله سبحانه هو الذي ينزل ما شاء و يأذن فيما شاء لكنه لا ينزل و لا يأذن في كل آية في كل وقت فإن لكل وقت كتابا كتبه لا يجري فيه إلا ما فيه. و مما تقدم يظهر أن ما ذكره بعضهم أن قوله: «لكل أجل كتاب» من باب القلب و أصله: لكل كتاب أجل أي إن لكل كتاب منزل من عند الله وقتا مخصوصا ينزل فيه و يعمل عليه فللتوراة وقت و للإنجيل وقت و للقرآن وقت. وجه لا يعبأ به. قوله تعالى: «يمحوا الله ما يشاء و يثبت و عنده أم الكتاب» محو الشيء هو إذهاب رسمه و أثره يقال: محوت الكتاب إذا أذهبت ما فيه من الخطوط و الرسوم قال تعالى: «و يمح الله الباطل و يحق الحق بكلماته»: الشورى: 24 أي يذهب بآثار الباطل كما قال: «فأما الزبد فيذهب جفاء» و قال: «و جعلنا الليل و النهار آيتين فمحونا آية الليل و جعلنا آية النهار مبصرة»: أسرى: 12 أي أذهبنا أثر الإبصار من الليل فالمحو قريب المعنى من النسخ يقال: نسخت الشمس الظل أي ذهبت بأثره و رسمه. و قد قوبل المحو في الآية بالإثبات و هو إقرار الشيء في مستقره بحيث لا يتحرك و لا يضطرب يقال: أثبت الوتد في الأرض إذا ركزته فيها بحيث لا يتحرك و لا يخرج من مركزه فالمحو هو إزالة الشيء بعد ثبوته برسمه و يكثر استعماله في الكتاب. و وقوع قوله: «يمحوا الله ما يشاء و يثبت» بعد قوله: «لكل أجل كتاب» و اتصاله به من جانب و بقوله: «و عنده أم الكتاب» من جانب ظاهر في أن المراد محو الكتب و إثباتها في الأوقات و الآجال فالكتاب الذي أثبته الله في الأجل الأول إن شاء محاه في الأجل الثاني و أثبت كتابا آخر فلا يزال يمحى كتاب و يثبت كتاب آخر. و إذا اعتبرنا ما في الكتاب من آية و كل شيء آية صح أن يقال لا يزال يمحو آية و يثبت آية كما يشير إليه قوله: «ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها»: البقرة: 106، و قوله: «و إذا بدلنا آية مكان آية» الآية: النحل: 101. فقوله: «يمحوا الله ما يشاء و يثبت» على ما فيه من الإطلاق يفيد فائدة التعليل لقوله: «لكل أجل كتاب» و المعنى أن لكل وقت كتابا يخصه فيختلف فاختلاف الكتب باختلاف الأوقات و الآجال إنما ظهر من ناحية اختلاف التصرف الإلهي بمشيته لا من جهة اختلافها في أنفسها و من ذواتها بأن يتعين لكل أجل كتاب في نفسه لا يتغير عن وجهه بل الله سبحانه هو الذي يعين ذلك بتبديل كتاب مكان كتاب و محو كتاب و إثبات آخر. و قوله: «و عنده أم الكتاب» أي أصله فإن الأم هي الأصل الذي ينشأ منه الشيء و يرجع إليه، و هو دفع للدخل و إبانة لحقيقة الأمر فإن اختلاف حال الكتاب المكتوب لأجل بالمحو و الإثبات أي تغير الحكم المكتوب و القول المقضي به حينا بعد حين ربما أوهم أن الأمور و القضايا ليس لها عند الله سبحانه صورة ثابتة و إنما يتبع حكمه العلل و العوامل الموجبة له من خارج كأحكامنا و قضايانا معاشر ذوي الشعور من الخلق أو أن حكمه جزافي لا تعين له في نفسه و لا مؤثر في تعينه من خارج كما ربما يتوهم أرباب العقول البسيطة أن الذي له ملك - بكسر اللام - مطلق و سلطنة مطلقة له أن يريد ما يشاء و يفعل ما يريد على حرية مطلقة من رعاية أي قيد و شرط و سلوك أي نظام أو لا نظام في عمله فلا صورة ثابتة لشيء من أفعاله و قضاياه عنده، و قد قال تعالى: «ما يبدل القول لدي»: ق: 29، و قال: «و كل شيء عنده بمقدار»: الرعد: 8 إلى غير ذلك من الآيات. فدفع هذا الدخل بقوله: «و عنده أم الكتاب» أي أصل جنس الكتاب و الأمر الثابت الذي يرجع إليه هذه الكتب التي تمحى و تثبت بحسب الأوقات و الآجال و لو كان هو نفسه تقبل المحو و الإثبات لكان مثلها لا أصلا لها و لو لم يكن من أصله كان المحو و الإثبات في أفعاله تعالى إما تابعا لأمور خارجة تستوجب ذلك فكان تعالى مقهورا مغلوبا للعوامل و الأسباب الخارجية مثلنا و الله يحكم لا معقب لحكمه. و إما غير تابع لشيء أصلا و هو الجزاف الذي يختل به نظام الخلقة و التدبير العام الواحد بربط الأشياء بعضها ببعض جلت عنه ساحته، قال تعالى: «و ما خلقنا السماوات و الأرض و ما بينهما لاعبين ما خلقناهما إلا بالحق»: الدخان: 39. فالملخص من مضمون الآية أن لله سبحانه في كل وقت و أجل كتابا أي حكما و قضاء و أنه يمحو ما يشاء من هذه الكتب و الأحكام و الأقضية و يثبت ما يشاء أي يغير القضاء الثابت في وقت فيضع في الوقت الثاني مكانه قضاء آخر لكن عنده بالنسبة إلى كل وقت قضاء لا يتغير و لا يقبل المحو و الإثبات و هو الأصل الذي يرجع إليه الأقضية الآخر و تنشأ منه فيمحو و يثبت على حسب ما يقتضيه هو. و يتبين بالآية أولا: أن حكم المحو و الإثبات عام لجميع الحوادث التي تداخله الآجال و الأوقات و هو جميع ما في السماوات و الأرض و ما بينهما، قال تعالى: «ما خلقنا السماوات و الأرض و ما بينهما إلا بالحق و أجل مسمى»: الأحقاف: 3. و ذلك لإطلاق قوله: «يمحوا الله ما يشاء و يثبت» و اختصاص المورد بآيات النبوة لا يوجب تخصيص الآية لأن المورد لا يخصص. و بذلك يظهر فساد قول بعضهم: إن ذلك في الأحكام و هو النسخ و قول ثان: إن ذلك في المباحات المثبتة في صحائف الأعمال يمحوها الله و يثبت مكانها طاعة أو معصية مما فيه الجزاء، و قول ثالث: إنه محو ذنوب المؤمنين فضلا و إثبات ذنوب للكفار عقوبة، و قول رابع: إنه في موارد يؤثر فيها الدعاء و الصدقة في المحن و المصائب و ضيق المعيشة و نحوها، و قول خامس: إن المحو إزالة الذنوب بالتوبة و الإثبات تبديل السيئات حسنات، و قول سادس: إنه محو ما شاء الله من القرون و الإثبات إنشاء قرون آخرين بعدهم، و قول سابع: إنه محو القمر و إثبات الشمس و هو محو آية الليل و جعل آية النهار مبصرة، و قول ثامن: إنه محو الدنيا و إثبات الآخرة، و قول تاسع: إن ذلك في الأرواح حالة النوم يقبضها الله فيرسل من يشاء منهم و يمسك من يشاء، و قول عاشر: إن ذلك في الآجال المكتوبة في ليلة القدر يمحو الله ما يشاء منها و يثبت ما يشاء. فهذه و أمثالها أقوال لا دليل على تخصيص الآية الكريمة بها من جهة اللفظ البتة و للآية إطلاق لا ريب فيه ثم المشاهدة الضرورية تطابقه فإن ناموس التغير جار في جميع أرجاء العالم المشهود، و ما من شيء قيس إلى زمانين في وجوده إلا لاح التغير في ذاته و صفاته و أعماله، و في عين الحال إذا اعتبرت في نفسها و بحسب وقوعها وجدت ثابتة غير متغيرة فإن الشيء لا يتغير عما وقع عليه. فللأشياء المشهودة جهتان جهة تغير يستتبع الموت و الحياة و الزوال و البقاء و أنواع الحيلولة و التبدل، و جهة ثبات لا تتغير عما هي عليها و هما إما نفس كتاب المحو و الإثبات و أم الكتاب، و إما أمران مترتبان على الكتابين و على أي حال تقبل الآية الصدق على هاتين الجهتين. و ثانيا: أن لله سبحانه في كل شيء قضاء ثابتا لا يتغير و به يظهر فساد ما ذكره بعضهم أن كل قضاء يقبل التغيير و استدل عليه بمتفرقات الروايات و الأدعية الدالة على ذلك و الآيات و الأخبار الدالة على أن الدعاء و الصدقة يدفعان سوء القضاء. و فيه أن ذلك في القضاء غير المحتوم. و ثالثا: أن القضاء ينقسم إلى قضاء متغير و غير متغير و ستستوفي تتمة البحث في الآية عن قريب إن شاء الله تعالى. قوله تعالى: «و إن ما نرينك بعض الذي نعدهم أو نتوفينك فإنما عليك البلاغ و علينا الحساب» «إن ما» هو إن الشرطية و ما الزائدة للتأكيد و الدليل عليه دخول نون التأكيد في الفعل بعده. و في الآية إيضاح لما للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من الوظيفة و هو الاشتغال بأمر الإنذار و التبليغ فحسب فلا ينبغي له أن يتبع أهواءهم في نزول آية عليه كما اقترحوا حتى أنه لا ينبغي له أن ينتظر نتيجة بلاغه أو حلول ما أوعدهم الله من العذاب بهم. و في الآية دلالة على أن الحساب الإلهي يجري في الدنيا كما يجري في الآخرة. قوله تعالى: «أ و لم يروا أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها» إلخ كلام مسوق للعبرة بعد ما قدم إليهم الوعيد بالهلاك، و منه يعلم أن إتيان الأرض و نقصها من أطرافها كناية عن نقص أهلها بالإماتة و الإهلاك فالآية نظيرة قوله: «بل متعنا هؤلاء و آباءهم حتى طال عليهم العمر أ فلا يرون أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها أ فهم الغالبون»: الأنبياء: 44. و قول بعضهم إن المراد به أ و لم ير أهل مكة أنا نأتي أرضهم فننقصها من أطرافها بفتح القرى واحدة بعد واحدة للمسلمين فليخافوا أن نفتح بلدتهم و ننتقم منهم يدفعه أن السورة مكية و تلك الفتوحات إنما كانت تقع بعد الهجرة. على أن الآيات بوعيدها ناظرة إلى هلاكهم بغزوة بدر و غيرها لا إلى فتح مكة. و قوله: «و الله يحكم لا معقب لحكمه و هو سريع الحساب» يريد به أن الغلبة لله سبحانه فإنه يحكم و ليس قبال حكمه أحد يعقبه ليغلبه بالمنع و الرد و هو سبحانه يحاسب كل عمل بمجرد وقوعه بلا مهلة حتى يتصرف فيه غيره بالإخلال فقوله: «و الله يحكم» إلخ في معنى قوله في ذيل آية سورة الأنبياء المتقدمة: «أ فهم الغالبون». قوله تعالى: «و قد مكر الذين من قبلهم فلله المكر جميعا» إلى آخر الآية. يتبع... |
||