الميزان في تفسير القرآن

سورة المائدة

41 - 50

يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُواْ آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُواْ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِن لَّمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُواْ وَمَن يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (41) سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِن جَاؤُوكَ فَاحْكُم بَيْنَهُم أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِن تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَن يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُم بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (42) وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِندَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (43) إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُواْ مِن كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُواْ عَلَيْهِ شُهَدَاء فَلاَ تَخْشَوُاْ النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلاً وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ (44) وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنفَ بِالأَنفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (45) وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِم بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الإِنجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ (46) وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإِنجِيلِ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (47) وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاء اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُم فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّه مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (48) وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِن تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ (49) أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ (50)

بيان

الآيات متصلة الأجزاء يرتبط بعضها ببعض ذات سياق واحد يلوح منه أنها نزلت في طائفة من أهل الكتاب حكموا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في بعض أحكام التوراة و هم يرجون أن يحكم فيهم بخلاف ما حكمت به التوراة فيستريحوا إليه فرارا من حكمها قائلين بعضهم لبعض: «إن أوتيتم هذا - أي ما يوافق هواهم - فخذوه و إن لم تؤتوه - أي أوتيتم حكم التوراة - فاحذروا».

و أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) أرجعهم إلى حكم التوراة فتولوا عنه، و أنه كان هناك طائفة من المنافقين يميلون إلى مثل ما يميل إليه أولئك المحكمون المستفتون من أهل الكتاب يريدون أن يفتنوا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فيحكم بينهم على الهوى و رعاية جانب الأقوياء و هو حكم الجاهلية، و من أحسن حكما من الله لقوم يوقنون؟ و بذلك يتأيد ما ورد في أسباب النزول أن الآيات نزلت في اليهود حين زنا منهم محصنان من أشرافهم، و أراد أحبارهم أن يبدلوا حكم الرجم الذي في التوراة الجلد، فبعثوا من يسأل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عن حكم زنا المحصن، و وصوهم إن هو حكم بالجلد أن يقبلوه، و إن حكم بالرجم أن يردوه فحكم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بالرجم فتولوا عنه فسأل (صلى الله عليه وآله وسلم) ابن صوريا عن حكم التوراة في ذلك و أقسمه بالله و آياته أن لا يكتم ما يعلمه من الحق فصدق رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بأن حكم الرجم موجود في التوراة القصة و سيجيء في البحث الروائي الآتي إن شاء الله تعالى.

و الآيات مع ذلك مستقلة في بيانها غير مقيدة فيما أفادها بسبب النزول، و هذا شأن الآيات القرآنية مما نزلت لأسباب خاصة من الحوادث الواقعة، ليس لأسباب نزولها منها إلا ما لواحد من مصاديقها الكثيرة من السهم، و ليس إلا لأن القرآن كتاب عام دائم لا يتقيد بزمان أو مكان، و لا يختص بقوم أو حادثة خاصة، و قال تعالى: «إن هو إلا ذكر للعالمين»: يوسف: 140 و قال تعالى: «تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا»: الفرقان: 1 و قال تعالى: «و إنه لكتاب عزيز لا يأتيه الباطل من بين يديه و لا من خلفه»: فصلت: 42.

قوله تعالى: «يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر»، تسلية للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و تطييب لنفسه مما لقي من هؤلاء المذكورين في الآية، و هم الذين يسارعون في الكفر أي يمشون فيه المشية السريعة، و يسيرون فيه السير الحثيث، تظهر من أفعالهم و أقوالهم موجبات الكفر واحدة بعد أخرى فهم كافرون مسارعون في كفرهم، و المسارعة في الكفر غير المسارعة إلى الكفر.

و قوله: «من الذين قالوا ءامنا بأفواههم و لم تؤمن قلوبهم» بيان لهؤلاء الذين يسارعون في الفكر أي من المنافقين، و في وضع هذا الوصف موضع الموصوف إشارة إلى علة النهي كما أن الأخذ بالوصف السابق أعني قوله: «الذين يسارعون في الكفر» للإشارة إلى علة المنهي عنه، و المعنى - و الله أعلم -: لا يحزنك هؤلاء بسبب مسارعتهم في الكفر فإنهم إنما آمنوا بألسنتهم لا بقلوبهم و ما أولئك بالمؤمنين، و كذلك اليهود الذين جاءوك و قالوا ما قالوا.

و قوله: «و من الذين هادوا» عطف على قوله: «من الذين قالوا ءامنا» إلخ على ما يفيده السياق، و ليس من الاستيناف في شيء، و على هذا فقوله: «سماعون للكذب سماعون لقوم آخرين لم يأتوك» خبر لمبتدء محذوف أي هم سماعون إلخ.

و هذه الجمل المتسقة بيان حال الذين هادوا، و أما المنافقون المذكورون في صدر الآية فحالهم لا يوافق هذه الأوصاف كما هو ظاهر.

فهؤلاء المذكورون من اليهود هم سماعون للكذب أي يكثرون من سماع الكذب مع العلم بأنه كذب، و إلا لم يكن صفة ذم، و هم كثير السمع لقوم آخرين لم يأتوك، يقبلون منهم كل ما ألقوه إليهم و يطيعونهم في كل ما أرادوه منهم، و اختلاف معنى السمع هو الذي أوجب تكرار قوله: «سماعون» فإن الأول يفيد معنى الإصغاء و الثانية معنى القبول.

و قوله: «يحرفون الكلم من بعد مواضعه» أي بعد استقرارها في مستقرها و الجملة صفة لقوله: «لقوم آخرين» و كذا قوله: «يقولون إن أوتيتم هذا فخذوه و إن لم تؤتوه فاحذروا».

و يتحصل من المجموع أن عدة من اليهود ابتلوا بواقعة دينية فيما بينهم، لها حكم إلهي عندهم لكن علماءهم غيروا الحكم بعد ثبوته ثم بعثوا طائفة منهم إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و أمروهم أن يحكموه في الواقعة فإن حكم بما أنبأهم علماؤهم من الحكم المحرف فليأخذوه و إن حكم بغير ذلك فليحذروا.

و قوله: «و من يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئا» الظاهر أنها معترضة يبين بها أنهم في أمرهم هذا مفتونون بفتنة إلهية، فلتطب نفس النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بأن الأمر من الله و إليه و ليس يملك منه تعالى شيء في ذلك، و لا موجب للتحزن فيما لا سبيل إلى التخلص منه.

و قوله: «أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم» فقلوبهم باقية على قذارتها الأولية لما تكرر منهم من الفسق بعد الفسق فأضلهم الله به، و ما يضل به إلا الفاسقين.

و قوله: «لهم في الدنيا خزي و لهم في الآخرة عذاب عظيم» إيعاد لهم بالخزي في الدنيا و قد فعل بهم، و بالعذاب العظيم في الآخرة.

قوله تعالى: «سماعون للكذب أكالون للسحت» قال الراغب في المفردات:، السحت القشر الذي يستأصل، قال تعالى: «فيسحتكم بعذاب» و قرىء: فيسحتكم أي بفتح الياء يقال: سحته و أسحته، و منه السحت للمحظور الذي يلزم صاحبه العار كأنه يسحت دينه و مروءته، قال تعالى: «أكالون للسحت» أي لما يسحت دينهم، و قال (عليه السلام): كل لحم نبت من سحت فالنار أولى به، و سمي الرشوة سحتا.

انتهى.

فكل مال اكتسب من حرام فهو سحت، و السياق يدل على أن المراد بالسحت في الآية هو الرشا و يتبين من إيراد هذا الوصف في المقام أن علماءهم الذين بعثوا طائفة منهم إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كانوا قد أخذوا في الواقعة رشوة لتحريف حكم الله فقد كان الحكم مما يمكن أن يتضرر به بعضه فسد الباب بالرشوة، فأخذوا الرشوة و غيروا حكم الله تعالى.

و من هنا يظهر أن قوله تعالى: «سماعون للكذب أكالون للسحت» باعتبار المجموع وصف لمجموع القوم، و أما بحسب التوزيع فقوله: «سماعون للكذب» وصف لقوله: «الذين هادوا» و هم المبعوثون إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و من في حكمهم من التابعين، و قوله: «أكالون للسحت» وصف لقوم آخرين، و المحصل أن اليهود منهم علماء يأكلون الرشا، و عامة مقلدون سماعون لأكاذبيهم.

قوله تعالى: «فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم» إلى آخر الآية تخيير للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بين أن يحكم بينهم إذا حكموه أو يعرض عنهم، و من المعلوم أن اختيار أحد الأمرين لم يكن يصدر منه (صلى الله عليه وآله وسلم) إلا لمصلحة داعية فيئول إلى إرجاع الأمر إلى نظر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و رأيه.

ثم قرر تعالى هذا التخيير بأنه ليس عليه (صلى الله عليه وآله وسلم) ضرر لو ترك الحكم فيهم و أعرض عنهم، و بين له أنه لو حكم بينهم فليس له أن يحكم إلا بالقسط و العدل.

فيعود المضمون بالآخرة إلى أن الله سبحانه لا يرضى أن يجري بينهم إلا حكمه فإما أن يجري فيهم ذلك أو يهمل أمرهم فلا يجري من قبله (صلى الله عليه وآله وسلم) حكم آخر.

قوله تعالى: «و كيف يحكمونك و عندهم التوراة فيها حكم الله ثم يتولون من بعد ذلك و ما أولئك بالمؤمنين» تعجيب من فعالهم أنهم أمة ذات كتاب و شريعة و هم منكرون لنبوتك و كتابك و شريعتك ثم يبتلون بواقعة في كتابهم حكم الله فيها، ثم يتولون بعد ما عندهم التوراة فيها حكم الله و الحال أن أولئك المبتعدين من الكتاب و حكمه ليسوا بالذين يؤمنون بذلك.

و على هذا المعنى فقوله: «ثم يتولون من بعد ذلك» أي عن حكم الواقعة مع كون التوراة عندهم و فيها حكم الله، و قوله: «و ما أولئك بالمؤمنين» أي بالذين يؤمنون بالتوراة و حكمها، فهم تحولوا من الإيمان بها و بحكمها إلى الكفر.

و يمكن أن يفهم من قوله: «ثم يتولون»، التولي عما حكم به النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و من قوله: «و ما أولئك بالمؤمنين» نفي الإيمان بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) على ما كان يظهر من رجوعهم إليه و تحكيمهم إياه، أو نفي الإيمان بالتوراة و بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) جميعا، لكن ما تقدم من المعنى أنسب لسياق الآيات.

و في الآية تصديق ما للتوراة التي عند اليهود اليوم، و هي التي جمعها لهم عزراء بإذن «كورش» ملك إيران بعد ما فتح بابل، و أطلق بني إسرائيل من أسر البابليين و أذن لهم في الرجوع إلى فلسطين و تعمير الهيكل، و هي التي كانت بيدهم في زمن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، و هي التي بيدهم اليوم، فالقرآن يصدق أن فيها حكم الله، و هو أيضا يذكر أن فيها تحريفا و تغييرا.

و يستنتج من الجميع: أن التوراة الموجودة الدائرة بينهم اليوم فيها شيء من التوراة الأصلية النازلة على موسى (عليه السلام) و أمور حرفت و غيرت إما بزيادة أو نقصان أو تغيير لفظ أو محل أو غير ذلك، و هذا هو الذي يراه القرآن في أمر التوراة، و البحث الوافي عنها أيضا يهدي إلى ذلك.

قوله تعالى: «إنا أنزلنا التوراة فيها هدى و نور يحكم بها النبيون» إلخ بمنزلة التعليل لما ذكر في الآية السابقة، و هي و ما بعدها من الآيات تبين أن الله سبحانه شرع لهذه الأمم على اختلاف عهودهم شرائع، و أودعها في كتب أنزلها إليهم ليهتدوا بها و يتبصروا بسببها، و يرجعوا إليها فيما اختلفوا فيه، و أمر الأنبياء و العلماء منهم أن يحكموا بها، و يتحفظوا عليها و يقوها من التغيير و التحريف، و لا يطلبوا في الحكم ثمنا ليس إلا قليلا، و لا يخافوا فيها إلا الله سبحانه و لا يخشوا غيره.

و أكد ذلك عليهم و حذرهم اتباع الهوى، و تفتين أبناء الدنيا، و إنما شرع من الأحكام مختلفا باختلاف الأمم و الأزمان ليتم الامتحان الإلهي فإن استعداد الأزمان مختلف بمرور الدهور، و لا يستكمل المختلفان في الاستعداد شدة و ضعفا بمكمل واحد من التربية العلمية و العملية على وتيرة واحدة.

فقوله: «إنا أنزلنا التوراة فيها هدى و نور» أي شيء من الهداية يهتدي بها، و شيء من النور يتبصر به من المعارف و الأحكام على حسب حال بني إسرائيل، و مبلغ استعدادهم، و قد بين الله سبحانه في كتابه عامة أخلاقهم، و خصوصيات أحوال شعبهم و مبلغ فهمهم، فلم ينزل إليهم من الهداية إلا بعضها و من النور إلا بعضه لسبق عهدهم و قدمة أمتهم، و قلة استعدادهم، قال تعالى: «و كتبنا له في الألواح من كل شيء موعظة و تفصيلا لكل شيء»: الأعراف: 154.

و قوله: «يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا» إنما وصف النبيين بالإسلام و هو التسليم لله، الذي هو الدين عند الله سبحانه للإشارة إلى أن الدين واحد، و هو الإسلام لله و عدم الاستنكاف عن عبادته، و ليس لمؤمن بالله - و هو مسلم له - أن يستكبر عن قبول شيء من أحكامه و شرائعه.

و قوله: «و الربانيون و الأحبار بما استحفظوا من كتاب الله و كانوا عليه شهداء» أي و يحكم بها الربانيون و هم العلماء المنقطعون إلى الله علما و عملا، أو الذين إليهم تربية الناس بعلومهم بناء على اشتقاق اللفظ من الرب أو التربية، و الأحبار و هم الخبراء من علمائهم يحكمون بما أمرهم الله به و أراده منهم أن يحفظوه من كتاب الله، و كانوا من جهة حفظهم له و تحملهم إياه شهداء عليه لا يتطرق إليه تغيير و تحريف لحفظهم له في قلوبهم، فقوله: «و كانوا عليه شهداء» بمنزلة النتيجة لقوله: «بما استحفظوا» إلخ أي أمروا بحفظه فكانوا حافظين له بشهادتهم عليه.

و ما ذكرناه من معنى الشهادة هو الذي يلوح من سياق الآية، و ربما قيل: إن المراد بها الشهادة على حكم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في الرجم أنه ثابت في التوراة، و قيل: إن المراد الشهادة على الكتاب أنه من عند الله وحده لا شريك له، و لا شاهد من جهة السياق يشهد على شيء من هذين المعنيين.

و أما قوله تعالى: «فلا تخشوا الناس و اخشون و لا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا» فهو متفرع على قوله: «إنا أنزلنا التوراة فيها هدى و نور يحكم بها»، أي لما كانت التوراة منزلة من عندنا مشتملة على شريعة يقضي بها النبيون و الربانيون و الأحبار بينكم فلا تكتموا شيئا منها و لا تغيروها خوفا أو طمعا، أما خوفا فبأن تخشوا الناس و تنسوا ربكم بل الله فاخشوا حتى لا تخشوا الناس، و أما طمعا فبأن تشتروا بآيات الله ثمنا قليلا هو مال أو جاه دنيوي زائل باطل.

و يمكن أن يكون متفرعا على قوله: «بما استحفظوا من كتاب الله و كانوا عليه شهداء» بحسب المعنى لأنه في معنى أخذ الميثاق على الحفظ أي أخذنا منهم الميثاق على حفظ الكتاب و أشهدناهم عليه أن لا يغيروه و لا يخشوا في إظهاره غيري، و لا يشتروا بآياتي ثمنا قليلا، قال تعالى: «و إذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس و لا تكتمونه فنبذوه وراء ظهورهم و اشتروا به ثمنا قليلا»: آل عمران: 178 و قال تعالى: «فخلف من بعدهم خلف ورثوا الكتاب يأخذون عرض هذا الأدنى و يقولون سيغفر لنا و إن يأتهم عرض مثله يأخذوه أ لم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب أن لا يقولوا على الله إلا الحق و درسوا ما فيه و الدار الآخرة خير للذين يتقون أ فلا تعقلون و الذين يمسكون بالكتاب و أقاموا الصلاة إنا لا نضيع أجر المصلحين»: الأعراف: 107.

و هذا المعنى الثاني لعله أنسب و أوفق لما يتلوه من التأكيد و التشديد بقوله: «و من لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون».

قوله تعالى: «و كتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس - إلى قوله و الجروح قصاص» السياق و خاصة بالنظر إلى قوله: «و الجروح قصاص» يدل على أن المراد به بيان حكم القصاص في أقسام الجنايات من القتل و القطع و الجرح، فالمقابلة الواقعة في قوله: «النفس بالنفس» و غيره إنما وقعت بين المقتص له و المقتص به و المراد به أن النفس تعادل النفس في باب القصاص، و العين تقابل العين و الأنف الأنف و هكذا و الباء للمقابلة كما في قولك: بعت هذا بهذا.

فيئول معنى الجمل المتسقة إلى أن النفس تقتل بالنفس، و العين تفقأ بالعين و الأنف تجدع بالأنف، و الأذن تصلم بالأذن، و السن تقلع بالسن و الجروح ذوات قصاص، و بالجملة أن كلا من النفس و أعضاء الإنسان مقتص بمثله.

و لعل هذا هو مراد من قدر في قوله: «النفس بالنفس» إن النفس مقتصة أو مقتولة بالنفس و هكذا و إلا فالتقدير بمعزل عن الحاجة، و الجمل تامة من دونه و الظرف لغو.

و الآية لا تخلو من إشعار بأن هذا الحكم غير الحكم الذي حكموا فيه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و تذكره الآيات السابقة فإن السياق قد تجدد بقوله: «إنا أنزلنا التوراة فيها هدى و نور».

و الحكم موجود في التوراة الدائرة على ما سيجيء نقله في البحث الروائي التالي إن شاء الله تعالى.

قوله تعالى: «فمن تصدق به فهو كفارة له» أي فمن عفا من أولياء القصاص كولي المقتول أو نفس المجني عليه و المجروح عن الجاني، و وهبه ما يملكه من القصاص فهو أي العفو كفارة لذنوب المتصدق أو كفارة عن الجاني في جنايته.

و الظاهر من السياق أن الكلام في تقدير قولنا: فإن تصدق به من له القصاص فهو كفارة له، و إن لم يتصدق فليحكم صاحب الحكم بما أنزله الله من القصاص، و من لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون.

و بذلك يظهر أولا: أن الواو في قوله: «و من لم يحكم» للعطف على قوله: «من تصدق» لا للاستيناف كما أن الفاء في قوله: «فمن تصدق» للتفريع: تفريع المفصل على المجمل، نظير قوله تعالى في آية القصاص: «فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف و أداء إليه بإحسان»: البقرة: 187.

و ثانيا: أن قوله: «و من لم يحكم»، من قبيل وضع العلة موضع معلولها و التقدير: و إن لم يتصدق فليحكم بما أنزل الله فإن من لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون.

قوله تعالى: «و قفينا على آثارهم بعيسى بن مريم مصدقا لما بين يديه من التوراة» التقفية جعل الشيء خلف الشيء و هو مأخوذ من القفا، و الآثار جمع أثر و هو ما يحصل من الشيء مما يدل عليه، و يغلب استعماله في الشكل الحاصل من القدم ممن يضرب في الأرض، و الضمير في «آثارهم» للأنبياء.

فقوله: «و قفينا على آثارهم بعيسى بن مريم» استعارة بالكناية أريد بها الدلالة على أنه سلك به (عليه السلام) المسلك الذي سلكه من قبله من الأنبياء، و هو طريق الدعوة إلى التوحيد و الإسلام لله.

يتبع...

العودة إلى القائمة

التالي