التالي

مواطن الخطأ من وجهة نظر القرآن

السابق

من مواطن الخطأ التي يذكرها القرآن: اتخاذ الإنسان الظن بدل اليقين (وهذه هي القاعدة الأولى لدكارت أيضا. يقول: أنه لن يقبل بعدئذ أي موضوع، إلا أن يبحث ويحقق فيه مقدما، ولو وجدت احتمالا واحدا للخلاف في مائة احتمال، فلن أستفيد منه وأطرحه جانبا. وهذا هو المعنى الصحيح لليقين).

لو قيد الإنسان نفسه ليتبع اليقين في جميع المسائل، ولن يقبل الظن بدل اليقين، فلن يخطئ أبدا (لا بد من ملاحظة أنه في الأمور الظنية والاحتمالية، وفي الموارد التي لا يمكن الحصول على اليقين، يجب الأخذ بنفس ذلك الظن أو الاحتمال. ولكن يجب قبول الظن والاحتمال بدل الاحتمال، ولا يمكن الأخذ بالظن والإحتمال بدل اليقين. هذا المورد الثاني الذي يدعو إلى الخطأ).

لقد أكد القرآن كثيرا حول هذا الموضوع، وقد صرح في إحدى الآيات أن أكبر خطأ للفكر البشري هو اتباع الظن. وفي مقام آخر يخاطب الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: ((وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ)) (الأنعام//116)، ويقول في آية أخرى:((وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ)) (الإسراء / 36)، إنها أول ذكرى للبشر طوال التاريخ الفكري، ذكرها له القرآن ونهى البشر عن مثل هذه الأخطاء.

الموطن الثاني للخطأ في مادة الاستدلال، وخاصة في المسائل الاجتماعية هو مسألة التقليد، يعتقد كثير من الناس بالأمور التي يعتقدها المجتمع، أي أن الموضوع الذي يتقبله المجتمع، أو تقبله الأجيال السالفة، يقبلونه بدليل أن الأجيال السالفة قد رضيت وآمنت به (يوجد هذا الأمر في أحد أقوال "بيكن" وعندما يعرف أحد الأصنام التي يتحدث عنها بالصنم الاجتماعي أو الصنم العرفي، فإن غرضه هذا التقليد الأعمى). إلا أن القرآن يدعونا لكي نقيس كل مسألة بمعيار العقل، لا يعتبر بما صنعه الأجداد الأقدمون، أو أن نتركها تماما، فكم من أمور كانت معتبرة في الماضي مع أنها خاطئة ولكن الناس قبلوها، وكم من أمور صحيحة في الأزمنة البعيدة ولكن الناس امتنعوا عن الاعتراف بها بسبب جهلهم.

في قبول هذه المسألة لا بد من الاستعانة بالعقل والفكر، وعدم اتباع التقليد الأعمى. القرآن يقابل كثيرا بين أتباع الآباء والأجداد وبين العقل والفكر، قال تعالي: ((وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ اتَّبِعُوا ... وَلاَ يَهْتَدُونَ)) (البقرة/170)، يؤكد القرآن إن قِدَم فكر ما ليس دليلا على خطئه ولا يوجب صحته، وإن القدم يجري في الأمور المادية، ولكن حقائق الوجود لن تصبح قديمة متروكة مهما مضى عليها الزمان. فحقيقة مثل: ((.... إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ)) تكون صادقة محكمة ثابتة طوال عمر الدنيا.

يقول القرآن: أنه لا بد من مواجهة المسائل بسلاح العقل والفكر، ويجب أن لا يترك الإنسان عقيدة سليمة بدليل مخالفة الآخرين له، كما يجب أن لا يقبل عقيدة، بمجرد تعلقها بهذه الشخصية المعروفة، أو تلك الشخصية الكبيرة، ولا بد أن يحقق الإنسان بنفسه في كل المسائل (يجب أن لا يشتبه بين موضوع تقليد الآباء والأجداد، أو الموضة العصرية، أو صبغة المجتمع التي نهى عنها القرآن بشدة، وبين موضوع تقليد المجتهد الأعلم الأعدل في الفقه، لأنه أمر واجب بيتني على رعاية التخصص والاستفادة من العلم التخصصي)

العامل الآخر الذي يؤثر في تكون الخطأ ويذكره القرآن، هو اتباع هوى النفس والميول النفسية، يقول مولوي (الشاعر):

"عندما جاء الغرض (هوى النفس) احتجب الفن، وانتقلت مئات الحجب من القلب إلى العين".

لو لم يتخل الإنسان - في أي أمر - من شر الأغراض النفسية، لا يستطيع أن يتفكر تفكيرا سليما، أي: أن العقل يستطيع من العمل الصحيح، في بيئة لا توجد فيها الأهواء النفسية. هناك قصة معروفة عن العلامة الحلي نذكرها، لأنها مثال جيد. لقد عرض للعلامة الحلي هذه المسألة الفقهية، وهي أنه لو مات حيوان في البئر وبقيت الميتة النجسة في البئر، ماذا يجب العمل بماء البئر؟ وبالصدفه سقط - في تلك الآونة - حيوان في بئر العلامة الحلي، واضطر ليستنبط حكما لنفسه. كان لا بد له أن يحكم - في هذا المورد- عند طريقين:

الأول: أن يملأ البئر بالتراب، ويستفيد من بئر آخر.

الثاني: أن يأخذ مقدارا معنيا من ماء البئر، ثم يستفيد من بقية الماء بلا إشكال. فرأى العلامة الحلي أنه لا يستطيع أن يحكم في هذه المسألة بلا غرض، لأن له مصلحة في القضية، ولذلك أمر أن يملأ البئر بالتراب أولا، ثم بدأ بإصدار الحكم وإظهار الفتوى ببال مريح، وبعيدا عن ضغط الوساوس النفسية.

وللقرآن إشارات كثيرة في موضوع متابعة هوى النفس، نكتفي بذكر مورد واحد، يقول القرآن: ((إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنْفُسُ...)) (النجم / 23).

نظرة القرآن عن القلب

أظن أنه لا داعي للتوضيح، بأن الغرض من القلب في اصطلاح العرفاء والأدباء ليس ذلك العضو اللحمي الموجود في الجانب الأيسر من البدن، ويجري الدم كالمضخة في العروق، فمثلا في تعبير القرآن: ((إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ...)) (ق / 37)، أو في التعبير العرفاني اللطيف لحافظ (الشاعر):

"لقد نفر قلبي، وغافل أنا المسكين، ماذا قد حتى بهذا الصيد التائه الحيوان."

واضح أن المقصود من القلب (في هذين المثالين)، حقيقة سامية ممتازة، تختلف تماما عن هذا العضو الموجود في البدن، وهكذا عندما يذكر القرآن مرضى القلوب: ((فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمْ اللَّهُ مَرَضًا)) (البقرة / 10)، فإن معالجة هذا المرض، خارجة عن طاقة طبيب أمراض القلب، وإذا وجد طبيب يتمكن من معالجة هذه الأمراض، فلا شك أنه طبيب متخصص في الأمراض الروحية.

تعريف القلب

إذن ما هو المقصود من القلب؟ للإجابة على هذا السؤال يجب البحث في حقيقة وجود الإنسان. فالإنسان في الوقت الذي هو موجود واحد، إلا أن له مئات بل وآلاف الأبعاد الوجودية. "أنا" الإنسانية عبارة عن مجموعة كبيرة من الأفكار، والآمال، والخوف، والحب، و... وأنها بمثابة الأنهار والجداول، التي تتجمع في مركز واحد، وأن هذا المركز بنفسه بحر عميق، بحيث ما استطاع - إلى الآن - أي إنسان أن يدعي أنه اطلع على أعماق هذا البحر.

فالفلاسفة والعرفاء وعلماء النفس، ساهم كل إلى حد ما في السباحة في أغوار هذا البحر، ووفق كل منهم إلى كشف بعض أسراره، ولربما كان العرفاء أكثر حظا من الآخرين في هذا المجال.

وما يسميه القرآن بالقلب، عبارة عن حقيقة هذا البحر، وإن ما نسميه بالروح الظاهرية، عبارة عن الأنهار والجداول التي تتصل بهذا البحر. وحتى العقل بنفسه أحد هذه الأنهار التي تتصل بهذا البحر.

عندما يذكر القرآن الوحي، لم يقل شيئا عن العقل، بل أن علاقته ترتبط مع قلب الرسول (ص)، ومعنى هذا الكلام أن القرآن، لم يرد على الرسول بقوة العقل وبالاستدلال العقلي، بل، كان هذا قلب الرسول (ص)، حيث ارتقى إلى حالة لا يمكن لنا تصورها، وفي تلك الحالة حصل على قابلية أدراك ومشاهدة تلك الحقائق المتعالية، وها هي آيات سورة النجم وسورة التكوير توضح كيفية هذا الارتباط إلى حد ما، نقرأ في سورة النجم: ((وما ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى، علمه شديد القوى، ذو مرة فاستوى وهو بالأفق الأعلى، ثم دنا فتدلى، فكان قاب قوسين أو أدنى، فأوحى إلى عبده ما أوحى، ما كذب الفؤاد ما رأي)) : يقول القرآن ذلك، ليبين أن مستوى هذه المسائل فوق حيز عمل العقل الحديث هنا عن المشاهدة والاعتلاء. ونقرأ في سورة التكوير: ((أنه لقول رسول كريم، ذي قوة عند ذي العرش مكين، مطاع ثم أمين، وما صاحبكم بمجنون، ولقد رآه بالأفق المبين، وما هو على الغيب بضنين، وما هو بقول شيطان رجيم، فأين تذهبون، أن هو إلا ذكر للعالمين)).

التالي

الفهرست

السابق